الحرية- عمران محفوض:
فَهِمَ معظم العاملين في الوزارات، الذين لم تشملهم زيادات الرواتب الأخيرة، أن عليهم أن يكونوا مشاريع فاسدين؛ أو مشتبهاً فيهم كي تنط أجورهم من درك المليون ليرة إلى حظوة ذوي الملايين، وكأن الموظف المفتوح أمامه نفق الفساد هو من يلفت اهتمام وزارة المالية إليه، فتسارع إلى تحسين مستوى معيشته، كإجراء وقائي علّه يردع من تسول له نفسه ارتكاب إحدى جرائم اختلاس المال العام؛ أو تقاضي الرشوة؛ أو التقصير في أداء واجبه الوظيفي، أي من باب سد الذرائع -عدم كفاية الراتب لإعالة عائلته- التي طالما كانت حجّة بعض الموظفين الفاسدين..
وفيما لو فرضنا أن الأمر كذلك، هل زيادة الراتب هي الحلّ الوحيد لتقويم سلوك المشتبه بانحرافهم عن تنفيذ أحكام القانون، وتالياً دفعهم إلى السير على طريق النزاهة والأخلاق الوظيفية السليمة؟..
بصراحة؛ لو أن الحاجة إلى المال هي الدافع الوحيد إلى اعوجاج سلوك الموظف الفاسد لكان “تاب” بعد عدة عمليات سرقة واختلاس للمال العام، أو لكان اكتفى بعد سنة أو سنتين أو حتى عشر سنوات من النهب المستمر لخزينة الدولة ..!
لعلّ الواقع غير ذلك تماماً، وعلى المالية قراءة السيرة الذاتية لكل فاسد قضى طوال سنوات خدمته في الوظيفة العامة، وخرج منها مليونيراً، وربما مكرّماً على الخدمات “الجليلة” التي قدمها للوطن، فيما جميع زملائه في المؤسسة أو المؤسسات التي عمل فيها؛ يعرفون قلة نزاهته ومن أين كوّن ثروته، بل وقضوا عمرهم الوظيفي ينتظرون قدوم من يطرح عليه السؤال البدهي: من أين لك هذا؟.
صحيح أن قلّة الرواتب والأجور سبب لدى ضعاف النفوس والأخلاق كي يغرقوا في مستنقع الفساد؛ لكنّه سبب من عدة أسباب أخرى يجب على الجهات الرقابية التعامل معها كسلسلة متصلة، نحتاج اليوم إلى تفكيك حلقاتها واحدة تلو الأخرى وصولاً إلى محاسبة جميع المتورطين وانتهاء بالقضاء التام على شبكات الفساد ما ظهر منها وما بطن.
وبالطبع تحقيق هذا المطلب الشعبي يحتاج إلى وضع استراتيجية متكاملة ومستمرة، أو على أقل تقدير تطبيق ما ورد في اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمكافحة الفساد من آليات وقائية وتوعوية وأخرى ردعية..
– وضع سياسات فعالة لمنع الفساد، وتعزيز الجهات المتخصصة التي تعمل على تنفيذ هذه السياسات.
– تجريم أفعال الفساد، وإنفاذ العقوبات الرادعة لضمان الامتثال للقانون.
– تسهيل الإجراءات الرقمية، وتحسين الشفافية، وتعزيز المساءلة لضمان فعالية الجهود المبذولة لمكافحة الفساد.
– رفع الوعي العام بمخاطر الفساد، وتعزيز قيم النزاهة في المجتمع لضمان مواجهة تشريعية فعالة له.
وفيما عدا ذلك، أي إجراءات لمكافحة الفساد ستكون منقوصة إن لم تكن شاملة ورادعة على المديين القريب والمستقبلي، وربما قد يفسرها المخضرمون في امتهان الفساد على أنها جائزة ترضية؛ لا أنه في سياق مقولة: “إن اللبيب من الإشارة يفهم”…!