الحرية – بشرى سمير:
تُعد مدينة دمشق واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، وهي تحمل بين أسواقها القديمة وبيوتها الأثرية تراثاً إنسانياً فريداً، ومع ذلك، تواجه هذه المدينة العريقة في السنوات الأخيرة أزمة بيئية حادة تتمثل في تراكم النفايات في شوارعها وأحيائها، ما يهدد صحة السكان ويثير تساؤلات حول أسبابها والحلول الممكنة، ورغم أن البعض يرى أن عدم وعي المواطنين يسهم في تفاقم المشكلة، فإن التقصير الواضح من الجهات المعنية يبدو العامل الأبرز في هذه الأزمة المستمرة.
نظام إدارة النفايات بين الماضي والحاضر
بيّن محمد سيروان، عضو مجلس محافظة سابق، أن مشكلة النفايات لم تظهر في دمشق فجأة، بل هي نتيجة تراكمية لسنوات من التحديات، فقبل عام 2011، كانت إدارة النفايات الصلبة مشكلة بيئية معترفاً بها في سوريا، حيث كان التعامل مع النفايات غير مناسب ويفتقر إلى الرقابة التنظيمية على الانبعاثات الصادرة عن البيئة، وكان نظام الحوكمة البيئية ضعيفاً، وقد تفاقم هذا الوضع بشكل كبير بعد عام 2011 بسبب الظروف المعقدة التي مرت بها البلاد، حيث أدى الانهيار شبه الكامل لخدمات إدارة النفايات إلى بقاء كميات كبيرة منها ملقاة في الشوارع في جميع أنحاء البلاد.
البنية التحتية القديمة
وأضاف سيروان أنه لا يمكن فهم استمرار الأزمة من دون النظر إلى البنية التحتية القديمة. فقد أدى نقل محطة الترحيل من منطقة باب شرقي إلى محطة الكسوة إلى زيادة المسافة التي تقطعها آليات نقل النفايات لتتجاوز 35 كم في بعض المراكز، ما أثر على كفاءة العملية برمتها. كما أن تهالك الأسطول العامل على ترحيل القمامة وعدم تحديثه أو تطويره يشكلان أحد الأسباب الجوهرية لعدم القدرة على معالجة المشكلة بشكل جذري.
وعن مظاهر التلوث وتراكم النفايات، أشار سيروان إلى أن المشكلة تتجلى بعدة أشكال تؤثر بشكل مباشر على حياة السكان:
التراكم المستمر للنفايات، حيث تتكدس أكياس القمامة حول الحاويات الممتلئة في العديد من الأحياء، وأحياناً لا يتم ترحيلها إلّا بعد يومين أو أكثر، ما يشكل ما يشبه «تلة قمامة» بجانب الحاوية. وقد تحولت بعض الزوايا والساحات في الأحياء العشوائية إلى مكبات مؤقتة يستخدمها الأهالي اضطراراً.
انتشار الروائح الكريهة والحشرات، إذ تنتشر حول الحاويات روائح لا تتبدد طوال اليوم، خاصة في الصيف، ما يخلق بيئة غير صحية ويجبر السكان على إغلاق نوافذ منازلهم، كما يؤدي تراكم النفايات إلى انتشار الحشرات مثل الذباب والبرغش والصراصير بشكل مبالغ فيه.
تفاقم المشكلة في الأحياء العشوائية مثل الدويلعة والكباس وكشكول، حيث تتراكم القمامة في الشوارع الفرعية والأزقة الضيقة التي يصعب على سيارات النظافة الوصول إليها.
وبيّن سيروان أن المشكلة كشفت عن تقصير واضح من الجهات المعنية، حيث تعاني مديرية النظافة ومعالجة النفايات الصلبة في محافظة دمشق من قلة عدد الآليات العاملة على ترحيل القمامة وتدني جاهزيتها، إضافة إلى نقص المعدات وعدم انتظام جمع القمامة، خاصة في المناطق العشوائية التي لا تحظى بالخدمات البلدية المنتظمة المتوفرة في أحياء دمشق المركزية.
الجهود المبذولة للحل
ولم ينكر سيروان أن المحافظة بذلت بعض المحاولات لمعالجة المشكلة ولا تزال تبذل الجهود من خلال الحملات المكثفة في المناطق التي شهدت تراكم النفايات، ومحاولة الإسراع في إصلاح الآليات، خاصة الأعطال الخفيفة. كما عقد محافظ دمشق اجتماعاً تم خلاله التوجيه بوضع حلول إسعافية، منها تأمين آليات من الأسواق المحلية لمؤازرة آليات المديرية، وإعداد مشروع لاستئجار آليات لخدمة مدينة دمشق القديمة كونها واجهة سياحية.
دور المواطن والمسؤولية المجتمعية
وأكد سيروان أن بجانب التقصير الرسمي، يلعب سلوك بعض المواطنين دوراً في تفاقم المشكلة. فقد علقت إحدى المواطنات: «في بلدنا كل واحد يكب الزبالة على هواه، وهذا خطأ». واقترح آخر أن الحل يكون بتحديد ساعة معينة لإخراج النفايات من البيوت، وبعدها تأتي السيارة لجمعها، بحيث لا تبقى نفايات في الطرقات.
ويبدو أن غياب الثقافة البيئية والوعي المجتمعي بكيفية التعامل مع النفايات يسهم في استمرار المشكلة. فكثير من السكان يتركون أكياس القمامة في زوايا الشوارع أو قرب الجدران لعدم وجود حاويات قريبة، أو يقومون بإخراج النفايات في أوقات غير منتظمة، ما يجعل عملية جمعها بشكل منظم مهمة صعبة.
حلول مقترحة للخروج من الأزمة
للتعامل مع مشكلة النفايات في دمشق، طرح سيروان مجموعة من الحلول التي تستهدف معالجة الجذور الحقيقية للمشكلة، منها:
تحسين البنية التحتية من خلال تحديث أسطول آليات ترحيل القمامة المتهالك.
توفير حاويات كافية وتوزيعها بشكل مناسب في مختلف الأحياء، خاصة العشوائية منها.
تعزيز الوعي المجتمعي عبر حملات توعوية للمواطنين حول أهمية وضع النفايات في الأماكن المخصصة وفي أوقات محددة، مع التوعية بأهمية الفرز من المصدر لتسهيل عملية إعادة التدوير.
تحسين تخطيط الخدمات البلدية مع التركيز على المناطق العشوائية، وتطوير حلول مبتكرة للتعامل مع الأزقة الضيقة التي لا تستطيع شاحنات النفايات الوصول إليها.
الاستفادة من التجارب الدولية في إدارة النفايات الصلبة، وتبني تقنيات حديثة في جمع ومعالجة النفايات، بما في ذلك إعادة التدوير وتحويل النفايات إلى طاقة.
نحو رؤية متكاملة
مشكلة النفايات في دمشق هي نتيجة تراكمية لسنوات من الإهمال والتقصير من مختلف الجهات، ورغم أن سلوكيات بعض المواطنين تسهم في استمرار المشكلة، يبقى التقصير المؤسسي هو العامل الأساسي، خاصة في ظل تهالك الآليات وعدم كفاءة النظام الحالي لإدارة النفايات. ولا يمكن فصل هذه الأزمة عن التحديات الاقتصادية والاجتماعية الأوسع التي تمر بها سوريا، ما يتطلب معالجة شاملة تبدأ بتحسين البنية التحتية وتنتهي ببناء ثقافة مجتمعية مسؤولة بيئياً.
وختم بالقول: إن دمشق، التي وصفتها المستشرقة البريطانية بريجيت كنان في كتابها «دمشق القديمة وكنوزها الدفينة» بأنها مدينة ذات بيوت تشبه القصور الخيالية، تستحق أن تحظى بنظام إدارة نفايات يتناسب مع عراقتها وتاريخها. فالتخلص من أزمة النفايات ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو ضرورة للحفاظ على الصحة العامة، وواجب للحفاظ على إرث إنساني فريد يمتد لآلاف السنين.