الحرية – سامر اللمع:
عندما جاء الرئيس الأمريكي جيمس مونرو، خامس الرؤساء الأمريكيين (1817–1825)، وضع ما سُمّي بـ «مبدأ مونرو» في 2 كانون الثاني/يناير 1823، والذي يقوم على أن دول أمريكا الجنوبية والكاريبي ينبغي أن تكون منطقة نفوذ حصري للولايات المتحدة، ويمنع على القوى الأوروبية أن تمارس نفوذها أو حروبها في «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة.
وبعد مرور نحو 200 عام على «مبدأ مونرو»، عادت العلاقات بين الولايات المتحدة وأقرب جيرانها في أمريكا اللاتينية والكاريبي إلى الخلافات والصراعات من جديد، حيث بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ولايته الثانية بدعوته العلنية لاستعادة »قناة بنما» بالقوة المسلحة، وأجبر الحكومة البنمية على الانسحاب من المبادرة الصينية «الحزام والطريق»، وضغط على بنما حتى قامت بإلغاء كل الاتفاقيات مع الشركات الصينية التي كانت تعمل على طرفي قناة بنما من الشرق إلى الغرب، ولم يقتصر الأمر على بنما، حيث زادت واشنطن عقوباتها على كوبا، وكذلك زاد الضغط الأمريكي على نيكاراغوا، وفرض البيت الأبيض رسوماً جمركية قاسية على البرازيل، أكبر دولة وأكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية.
لكن أخطر ما يجري حالياً بين واشنطن وجيرانها في الجنوب، هو التهديدات الأمريكية المتصاعدة ضد دولة فنزويلا، في إطار الحملة العسكرية التي تخوضها واشنطن ضد عصابات تهريب المخدرات التي تقول إدارة ترامب إنها مدعومة من دائرة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بينما تؤكد كاراكاس أن هدف الرئيس ترامب هو «إسقاط النظام السياسي» في فنزويلا والسيطرة على نفطها.
ولم تقتصر تهديدات ترامب على فنزويلا فقط، بل تعدتها إلى دولة كولومبيا التي اتهمها بتصنيع «الكوكايين» وتهريبه إلى الولايات المتحدة، حيث قال في اجتماع للحكومة الأمريكية أمس الأول: «أسمع أن كولومبيا، بلد كولومبيا، تصنع الكوكايين، لديهم مصانع للكوكايين، حسناً؟ ثم يبيعون لنا كوكايينهم… أي شخص يفعل ذلك ويبيعه في بلادنا سيكون هدفاً للهجوم… وليس فنزويلا فقط».
في المقابل، حذّر الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو نظيره الأمريكي دونالد ترامب من تهديد سيادة بلاده، داعياً إياه لزيارة كولومبيا ليشهد «تدمير تسعة مختبرات مخدرات يومياً لمنع وصول الكوكايين إلى الولايات المتحدة»، وتدهورت العلاقات بين بوغوتا وواشنطن بشكل كبير في الآونة الأخيرة، حيث تتهم الحكومة الأمريكية بيترو بعدم الحزم في مواجهة عصابات المخدرات وفرضت عليه عقوبات.
إرهاصات التصعيد العسكري
بدأ التصعيد الأمريكي ضد فنزويلا في آب/أغسطس الماضي عندما وقّع الرئيس ترامب توجيهاً سرياً يُجيز للبنتاغون استخدام القوة العسكرية ضد عصابات مخدرات بعينها في أمريكا اللاتينية، وبدأت أمريكا بالفعل في شن ضربات ضد قوارب في البحر الكاريبي اتهمتها بالعمل في تهريب المخدرات، حيث وقعت أولى الضربات في الثاني من أيلول/سبتمبر الماضي، وتضمنت إطلاق صاروخ من إحدى مدمرات البحرية الأمريكية على قارب صيد صغير على متنه 11 شخصاً.
منذ ذلك الحين، نفّذت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 21 غارة جوية وبحرية على قوارب فنزويلية تقول واشنطن إنها تحمل مخدرات، ما أسفر عن مقتل 83 شخصاً على الأقل، ترافق ذلك مع تعزيزات عسكرية أوسع للولايات المتحدة في منطقة الكاريبي، وهو أكبر حشد للقوات الأمريكية في أمريكا الجنوبية منذ غزو بنما عام 1989، وتكثف الحشد منذ منتصف تشرين الثاني/نوفمبر مع الإطلاق الرسمي لما سُمّي أمريكياً بـ «عملية الرمح الجنوبي» ضد عصابات تهريب المخدرات، وذلك تزامناً مع وصول مجموعة حاملة الطائرات “جيرالد آر. فورد” إلى منطقة الكاريبي.
وشمل الانتشار البحري الأمريكي ما لا يقل عن 11 سفينة حربية ومدمرة وغواصة نووية، ووفقاً لموقع «أويل برايس»، فإن حوالي 25% من إجمالي السفن الحربية الأمريكية المنتشرة عالمياً موجودة قرب سواحل فنزويلا، وبالإضافة إلى الأصول البحرية، نشرت الولايات المتحدة أسراباً من طائرات الجيل الخامس «إف-35» بجانب قاذفات استراتيجية من طراز «بي-1 لانسر» و«بي-52» حلقت قرب المجال الجوي الفنزويلي، فيما تقوم مروحيات العمليات الخاصة بمهام ضمن نطاق 100 ميل من الساحل الفنزويلي، وبشرياً، شمل الحشد قرابة 15 ألف جندي معظمهم من مشاة البحرية، القادرين على تنفيذ عمليات الإنزال البري.
بالتزامن، قامت الولايات المتحدة بتحديث البنية التحتية العسكرية، وإعداد المطارات في المنطقة لاستيعاب العمليات المستمرة ونشر الطائرات المقاتلة. وكانت الخطوة الأهم إعادة فتح قاعدة «روزفلت روز» البحرية في بورتوريكو، المغلقة منذ عقدين، وتحديثها وتوسعة ممراتها لاستيعاب الطائرات المقاتلة وطائرات الشحن.
مكالمة متوترة
وفقاً لصحيفة «ميامي هيرالد» الأمريكية، طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من نظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو في مكالمة هاتفية جرت بينهما في 21 تشرين الثاني الماضي «الاستقالة فوراً ومغادرة البلاد».
لاحقاً، نشرت وكالة «رويترز» تفاصيل عن تلك المكالمة، مشيرة إلى أن الرئيس الفنزويلي تجاهل مهلة حددها له ترامب من أجل «الخروج الآمن»، وقالت «رويترز» إن مادورو أبلغ نظيره الأمريكي، خلال المكالمة التي استمرت أقل من 15 دقيقة، بأنه مستعد لمغادرة فنزويلا شريطة أن يحصل هو وأفراد أسرته على عفو كامل، وأن ترفع أمريكا العقوبات عن أكثر من 100 مسؤول في الحكومة الفنزويلية، تتهمهم الولايات المتحدة بانتهاك حقوق الإنسان أو الاتجار بالمخدرات أو الفساد.
كذلك، طلب الرئيس الفنزويلي أن تقود نائبته ديلسي رودريغيز حكومة مؤقتة قبل إجراء انتخابات جديدة، لكن ترامب رفض معظم هذه الطلبات وأخبر مادورو بأن لديه أسبوعاً لمغادرة فنزويلا إلى الوجهة التي يختارها مع أفراد أسرته. ومع نهاية المهلة المحددة، أعلن الرئيس الأمريكي إغلاق المجال الجوي الفنزويلي.
مادورو في عزلة إقليمية ودولية
ويواجه الرئيس الفنزويلي مادورو عزلة إقليمية متزايدة بعد خسارته حلفاء في أسبوع واحد، حيث فاز مرشحون يمينيون في انتخابات هندوراس وسانت فينسنت والغرينادينز، ووعدا بقطع العلاقات مع كاراكاس.
أما دولياً، فقد سعت فنزويلا على مدى عقدين لبناء شبكة من الحلفاء المناهضين للولايات المتحدة حول العالم، شملت قوى مثل روسيا والصين وكوبا وإيران، على أمل تكوين نظام عالمي جديد يواجه نفوذ واشنطن. غير أن صحيفة «وول ستريت جورنال» ترى أن هذه المساعي «لا تبدو ناجحة» في تحقيق هدفها، إذ لم تقدّم تلك الدول سوى «دعم كلامي» للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، في وقت يواجه فيه تصعيداً عسكرياً من الولايات المتحدة. وأشارت الصحيفة إلى أن فنزويلا، كما حدث مع إيران عند تعرضها لهجمات عسكرية من إسرائيل والولايات المتحدة، باتت تجد نفسها أمام حلفاء يقفون على هامش المواجهة.
وذكرت أن حلفاء كاراكاس اكتفوا خلال الأيام الماضية، مع انتشار قطع بحرية أمريكية قبالة السواحل الفنزويلية، بتوجيه تهاني عيد الميلاد لمادورو، الذي بلغ 63 عاماً في 23 تشرين الثاني الماضي. وأضافت أن روسيا والصين تواجهان حالياً تحديات تقلل من اهتمامهما بالمخاوف الأمنية لفنزويلا، فموسكو مثقلة بتكلفة حربها المستمرة في أوكرانيا، فيما يعاني الاقتصاد الصيني من ضعف يحد من قدرته على تقديم الدعم، في وقت يسعى البلدان إلى التوصل لاتفاقات دبلوماسية وتجارية كبيرة مع إدارة ترامب، ما يقلل من دوافعهما لإهدار رصيدهـما السياسي على فنزويلا.
قصارى القول، يبدو أن التوتر بين الولايات المتحدة وفنزويلا في مسار تصاعدي مع تعزيز الضغط العسكري الأميركي ضد كاراكاس، بعد الاجتماع الذي عقده ترامب في البيت الأبيض يوم الإثنين الماضي مع فريق الأمن القومي لمناقشة “الخطوات التالية” بشأن فنزويلا، ويعد ذلك تلويحاً صريحاً باستعداد الولايات المتحدة لتوسيع نشاطها إلى أجواء فنزويلا إضافة إلى الحصار البحري. وهو ما يدفع للتساؤل: هل تستعد الولايات المتحدة لشن ضربات جوية ضد فنزويلا قريباً؟ وما سيناريوهات التدخل الأميركي المحتمل؟ وهل يمكن أن يتطور الأمر إلى الغزو البري وسيناريو الحرب المفتوحة؟