الحرية – لبنى شاكر:
لم تكن حكايات المرضى التي تُروى يومياً في بيت الطبيب والكاتب أوليفر ساكس 1933- 2015، حيث أفراد العائلة جميعاً، وعلى اختلاف تخصصاتهم يعملون في المجال الطبي، مُجرّد استعراضٍ لسيرورة مرضٍ ما كالتي تجري في المستشفيات أثناء تشخيص حالةٍ مرضيةٍ معينة، إنما كانت أقرب لرصد رد الفعل الذي يُبديه المصابون تجاه التغيير أو الضرر الذي تتسبب به الأمراض عادةً، وهذا ما ساعده بدايةً في اكتساب رؤيةٍ وفهمٍ مُختلفَين للمرضى الذين يستمر التواصل معهم لسنواتٍ أحياناً، ومن ثم استفاد أيضاً من عمله وقتاً طويلاً كطبيب أعصابٍ في دور المسنين فراقب حالاتهم عن كثب وبنى ملاحظاتٍ ووجهات نظر، كثيراً ما تطوّرت إلى مقالاتٍ بمشاركة المرضى أنفسهم.
قصصٌ مرضيةٌ نادرة
كذلك، أتاحت له مُؤلفاته المنشورة عن الصداع وأمراض الدماغ التواصل مع المزيد من الحالات النادرة وغير الاعتيادية للمصابين بالزهايمر وأمراض الأعصاب وتداعيات السكتة الدماغية، عن طريق الرسائل والاتصالات واللقاءات المباشرة، في وقتٍ كان يتواصل فيه باستمرار مع أطباء وباحثين كُثر، حيث كانت تُذهله المرونة التي يتمتع بها الدماغ في التعويض والتكيّف، وقدرة العقل على رؤية الأشياء بالتخيّل والتصوّر دون رؤيةٍ عينيةٍ، إلى جانب عمله كأستاذٍ في الطب النفسي في جامعة كولومبيا، وعلى ما يقوله، ساهم أولئك جميعهم؛ المرضى والأطباء والزملاء في اكتمال كتابه الشهير “عين العقل”، وفي مقدمتهم “ديفيد أبرامسون” الطبيب الذي أهداه الكتاب، وكان أشرف على علاجه بعد إصابته بورمٍ خبيثٍ في عينه، مع الإشارة إلى أن النسخة بين أيدينا صادرة عن دار الهنداوي عام 2021، للمترجمة ياسمين العربي.
استفاد الكاتب من عمله كطبيب أعصابٍ في دور المسنين فراقب حالاتهم وبنى ملاحظاتٍ تطوّرت إلى مقالاتٍ بمشاركة المرضى أنفسهم
معاناة عمى الوجوه
يُوازن ساكس في كتابه بين السير الذاتيّة للمرضى وسيرورة المرض، لذلك يصعب القول بأن “عين العقل” مُؤلّفٌ طبيٌّ أو أدبيٌّ بالكامل، حتى أنه يتكئ على إصابته بعمى الوجوه ومن ثم بورمٍ خبيثٍ في عينه، للحديث عن المرضين النادرين، مُستعرضاً أيضاً عدة حالاتٍ مرضيةٍ مُشابهة، يقول عن معاناته: “عمَه التعرّف على الوجوه أو العمه الطبوغرافي المتعلّق بالأمكنة؛ إشكاليتان عانيتُ منهما طويلاً حتى إنني لم أتعرّف إلى أخي وزملائي وبيتي، كذلك كانت الحال لدى آخرين تواصلوا معي بعد نشر كتابي عن رجلٍ يُعاني عمهاً بصرياً حاداً عام 1985، بعضهم لم يتعرفوا إلى أزواجهم وأطفالهم، وهناك من لم يعرف وجهه في المرآة أو في قعر كوب، وعلى أن جذر المشكلة يختلف بين مُصابٍ وآخر، كانت الحلقة الأولى في فهم ملابسات هذه السلوكيات المُثيرة للريبة في مختلف الأوساط، البحث عن سببٍ حقيقيٍّ لها”.
يُضيف ساكس: “ما شاهدناه من حالات كان دافعاً للتساؤل عن وجود مناطق في الدماغ مسؤولة عن التعرّف على الوجوه أو أن الأمر يرتبط بالنظام البصري الكلي مُضافاً إليه عوامل أخرى تتعلق بالبيئة مثلاً”. وفي هذا الإطار، كان البحث عن مصدر للإصابات العصبية والدماغية هاجساً شغل العلماء عبر الزمن ودفع بعضهم لإجراء تجارب بغرض تحديد مراكز معينة في الدماغ، لكن الغريب في هذا النوع من العمه كما ينقل الكاتب عن إجماع زملائه الأطباء الأخصائيين، الطريقة التي يتعاطى بها الدماغ معه، فمع أن مرونة الدماغ وإمكانية أن يقوم جزءٌ منه بالعمل بدل آخر لتلافي نقصٍ أو إشكاليةٍ ما، تنجح عادةً بالتعويض والتكيّف إلا أن هذا الكلام لا ينطبق على هذه الحالة، لذلك كان لا بد من أن يجد المصابون علامات أو جزئيات مُحددة يستندون إليها لتمييز وجهٍ عن آخر، وهناك من ركّز على المشية والصوت، وما يفرضه المسار العام للحياة كأن تتوقع وجود زملائك في المكتب وزوجتك في البيت.
يوميات الورم الخبيث
في فصلٍ آخر من “عين العقل”، يُورد ساكس جزءاً من يومياته مع الورم الخبيث، يقول: “بدأ الأمر في قاعة السينما مع نهاية عام 2005؛ اعتقدتُ أنها مشكلةٌ روتينيةٌ لكنّ الأمر كان بعيداً كليّاً عن عدم استقرار الرؤية البسيط، إذ سرعان ما أكّد الطبيب أنه ورمٌ ميلانيني خبيث خلف شبكية العين اليمنى، يُمكن علاجه بالليزر والإشعاع عوضاً عن استئصال العين، ومع بداية العام الجديد 2006 خضعتُ لأول عمليةٍ جراحيةٍ في عيني لوضع اليود المُشع في الشبكية، بعدها كانت تظهر أمامي خيالاتٌ وأشكالٌ غير واضحة، لا أعرف هل جاءت من عيني أم من عقلي بما فيه من مخزون حياتي ومعرفي، ثم كان لا بد من عمليةٍ ثانيةٍ بعد أيام لإزالة اللوحة المُشعة”.
يُوازن ساكس في كتابه بين السير الذاتيّة للمرضى وسيرورة المرض لذلك يصعب القول إن “عين العقل” مُؤلّفٌ طبيٌّ أو أدبيٌّ بالكامل
خلال هذا عانى ساكس صعوباتٍ في القراءة وتحديد الألوان واضطر إلى الاستعانة بالكتب الصوتية، لكن الإشكالية الأكبر كانت في اختلاف الأشياء عند النظر إليها في كل عينٍ على حدى، وهو ما اختبره مرضى آخرون، كان اختلال الرؤية كارثةً غيّرت حياتهم، لا سيما من كانوا كُتّاباً وقراءً يوميين.