“أ.م. سيوران” في قياساته المنطقية للمرارة

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية- علي الرّاعي:

كثيراً ما كان يعدّ نفسه “كاتباً لا ينتمي إلى أي مدرسة”، غير أنّ أكثر ما عُرف عنه تشاؤمه الذي يصل مستوى إلى الذروة، هو الناقد الشرس للوجود والحياة، الذي أكثر ما اشتهر في الأوساط الثقافية، اختصاراً ب”أ.م. سيوران” هو إميل ميشيل سيوران (Emil Mihail Cioran 1911- 1995)، الكاتب الروماني – الفرنسي، الذي كتب أولاً بالرومانية ثم انتقل إلى الكتابة بالفرنسية.. وعُرف عنه صداقته للفيلسوفين “ميرتشا إلياده وأوجين يونيسكو”، وكثيراً ما عبّر عن إعجابه بنيتشه وشوبنهاور.. لكن ورغم كلّ تشاؤمه كتب ذات مرة:
“احذروا من يديرون ظهورهم للحب،
وإلى الطموح، وإلى المجتمع؛
فإنهم سينتقمون لأنهم تخلوا عنها.”
وعلى مثل هذه الوثبات التي تأتي كقفزات كنغرٍ استرالي، يُقدم أ.م.سيوران معاييره في قياس المرارة، أو كما أطلق على كتابه “القياسات المنطقية للمرارة” قام بترجمته إلى العربية عدنان محمد، وصدر عن دار دال في اللاذقية.. وكان نشره سيوران سنة 1952، وهو من أبرز أعماله، وأكثرها كثافة في التعبير عن فكره التشاؤمي واليائس، لكنه جاء بأسلوبٍ ساخر، شعري، وأحياناً حكيم بشكلٍ يبعث على الذهول.. حيث يقدمه بمناخات الشذرات والتأملات القصيرة ذات منحى فلسفة وجودية أدبية، ومن هنا لا يحتوي على فصول تقليدية، بل على مئات العبارات القصيرة والمكثفة، وقد جاءت مواضيعه مفعمة بـ: العبث والعدم، الزمن والملل، الحب والموت، الفشل واليأس، الكتابة والفكر.. كل ذلك جاء بأسلوب الشذرات، أي الأقوال القصيرة التي تختزن أفكاراً معقدة، حيث يخلط الفلسفة بالأدب، والسخرية بالحكمة، والتشاؤم العميق بجمالٍ لغوي أخاذ.. كما قد تتقاطع أفكاره أحياناً مع نيتشه أو شوبنهاور، لكن بأسلوبٍ فريدٍ خاص به، فيه من التهكم ما يجعلك تبتسم وأنت تقرأ أكثر العبارات سوداوية. حيث يطرح تساؤلات روحية مؤرقة، فيبدو وكأنه “مؤمن يعاني من فشل الإيمان”. كما ينتقد بشدة المثقفين والفلاسفة، لكنه يفعل ذلك كواحدٍ منهم.
“كل فيلسوف
هو بالضرورة رجل فاشل.
الفلسفة ليست مهنة للأحياء.”
سيوران الذي يرى في الكتابة نوعاً من الفضفضة ضد السقوط الكامل.. نصوص هذا الكتاب تُحيّر المرء، أو المتلقي في تصنيفها، تلك النصوص التي كثيراً ما تأخذ شكل الومضة الشديدة التكثيف، والتي حيناً تأتي ومضة شعرية، أو قصة قصيرة جداً، أو تأملات في الحياة، وأحياناً خُلاصات إنسانية، أو قد تكون موقف تجاه قضية إنسانية ما، بل وتشتبك مع الهايكو في الكثير من المعايير والملامح، ويُمكن للمتلقي أن يجد في النص الواحد كلَّ ما سبق من تصنيفات.. هذا من حيث النوع أو إمكانية تحديد الجنس الإبداعي.
“السعادة نادرة جداً،
لأننا لا نبلغها إلّا في الشيخوخة،
وفي الهرم؛
فضلٌ يختصُّ به
عددٌ قليل من البشر.”
لكن من حيث الدفق العاطفي لهذه المنثورات على البياض؛ فلا تقلّ هي الأخرى تنويعاً بالمشاعر، أو تنوّع الأحاسيس التي يشعر بها القارئ، فطوراً تأتي الومضة بمنتهى الحكمة، وحيناً تكون بمنتهى النزق، وفي حالات كثيرة تظهر مُفعمة بالتهكم، وتالياً تُقدم موقفاً من الحياة.. هي نصوص تكره التصنيف إذاً، نصوص تعيش بحرية تماماً كغزلان السفوح، تُشبه حياة أ.م.سيوران ذاته، الكائن الذي عجز أن يجد لنفسه جنسية مُحددة، أو أن يكتفي بمواطنية دولة بذاتها، فهو المولود في 8 نيسان 1911 في رازيناري – رومانيا، والمتوفى في 20 حزيران 1995 في باريس- فرنسا، وكان طول الوقت متجولاً في مختلف الدول الأوروبية.. كائنٌ قضى سنوات عمره في الشك؛ كان ابناً لكاهنٍ أورثوذكسي، انتسب في سن السابعة عشرة إلى كلية الفلسفة في جامعة بوخارست، ونال الشهادة فيها عن أطروحته حول (برغسون)؛ وفي بوخارست ظهرت أول كتبه سنة 1937، وعنوانه “ذرا اليأس” الذي يحوي – حسب اعترافه – بذرة كلّ ما كتبه فيما بعد سواء في اللغة الرومانية، أم في اللغة الفرنسية.
“إن الحضارة التي تبدأ في الكاتدرائيات؛
ستنتهي بغموض الشيزوفرنيا.”
في تلك الفترة، ينفصل سيوران عن البرغسونية، فقد رأى أنها مُذنبة لتجاهلها البعد المأساوي للحياة، ونشر سنة 1937 “دموع وقديسون” وقد لقي هذا الكتاب مُعارضة دينية هائلة، قبل أن تصدر له دار غاليمار الفرنسية كتابه “مُختصر التفكك”، وفي كتاب “القياسات المنطقية للمرارة” الذين بين يدينا، فإنّ سيوران يهجو كل ما قام بدراسته أو عايشه، حيث الكثير من ومضاته في هذا الكتاب يسخر حدّ التهكم من الفلاسفة ومختلف الميتافيزيقيين. وهو الذي يرى أنّ تاريخ الأفكار؛ كان كامناً في تاريخ المنعزلين.
“العقل؛ هو أكبر مُستفيد من هزائم الجسد.
إنه يغتني على حسابه، ويُدمره،
ويعيش من حياة العصابات.
الحضارةُ مدينةٌ في منجزاتها لرجل عصابة.”

تتخذ “القياسات المنطقية للمرارة” مظهراً موجزاً لديوان أفكار، طوراً رصينة، وطوراً ساخرة، ومع ذلك فإنه لا تبعثر في هذا الكتاب، فمنذ الفقرة الأولى وحتى الأخيرة؛ يترسخُّ الهاجس نفسه: هاجس أن يُحافظ من خلال الشك على الميزة المُضاعفة للقلق والابتسامة.
“الموهبة هي الوسيلة الأكثر ضماناً
لتزوير كل شيء، ولتشويه الأشياء،
ولخداع النفس.
الوجود الحقيقي؛
يعود إلى الذين لم تثقلهم الطبيعة بأي موهبة.
كذلك من المُتعب تخيّل عالمٍ أكثر زيفاً من العالم الأدبي،
أو رجلٍ مُجردٍ من الواقع،
أكثر من رجل الأدب.”
بقي أن نُشير، إلى أن أ.م.سيوران؛ كان وزع تلك “المأثورات” من القول العالي إلى أبواب، كل باب يفتح على مجموعةٍ من القضايا المتماثلة، أو المواقف المُتقاربة، منها: ضمور الكلام، نصّاب الهاوية، زمنٌ وفقرُ دم، غرب، نقد العزلة، حيوية الحب، عن الموسيقا، دوار التاريخ، وأخيراً في منابع الفراغ.
سيوران الذي تركزت معظم أفكاره في” التشاؤم الوجودي” يرى أن الحياة بلا معنى وأن الوجود عبء. والقلق والعبثية: فيركّز على القلق الوجودي الذي يصيب الإنسان عند إدراكه لانعدام الغاية، وفي النقد العميق للدين: خاصةً المسيحية، رغم اهتمامه بالتصوف. وفي اللاجدوى والفراغ: حيث اعتبر أن كل محاولة للعثور على معنى تنتهي بالفشل.
ومن مؤلفات سيوران التي أشهرها بالفرنسية نذكر: مشكلة الوجود- 1949، اللامعقولات الكبرى- 1952، التاريخ والتفكير عن طريق العدم – 1964، المياه كلها متشابهة، أو كل الماء بلون الغرق –” 1973 فيما كتب بالرومانية: “على قمم اليأس 1934-، دموع وقديسون- 1937 “..
ونختم بهاتين الشذرتين لـ”سيوران”:
أكبر نصر للحياة هو أنها تقنعك بجدوى الاستمرار فيها.
وكلُّ فكرٍ عميق يولد في حزنٍ عميق.

Leave a Comment
آخر الأخبار