الحرية – مها يوسف:
في ظل التحولات الاقتصادية الدقيقة التي تمر بها سوريا، يبرز ملف استبدال العملة القديمة بعملة جديدة كأحد أكثر الملفات حساسية وتأثيراً على الحياة اليومية للمواطنين وعلى مسار الإصلاح المالي عموماً.
وبين التخوف الشعبي والتفسيرات المتداولة، يطرح هذا الإجراء أسئلة جوهرية حول أهدافه الحقيقية وضماناته وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية.
خطوة استراتيجية لا صدمة نقدية
يرى الدكتور زياد أيوب عربش الأكاديمي والمستشار في جامعة دمشق أن استبدال العملة ليس إجراءً تقنياً معزولاً ولا خطوة مفاجئة تستهدف إرباك المواطن، بل هو خيار استراتيجي يُفترض أن يُدار بعناية عالية في مرحلة دقيقة من عمر الاقتصاد السوري. ويؤكد أن الهدف الأساسي من هذه الخطوة يتمثل في تنظيم التداول النقدي وتيسيره، وضبط السوق النقدية، بعيداً عن أي نية لإحداث صدمة في سلوك الأفراد أو المساس بمدخراتهم كما يُروج في بعض الأوساط.
آثار اقتصادية قريبة وبعيدة المدى…
ويشرح عربش أن الأثر الإيجابي لهذه الخطوة يمكن أن يظهر على المدى القريب من خلال الحد من التضخم الزائد، وتسهيل المعاملات اليومية وتحقيق قدر أكبر من الاستقرار النقدي، إضافة إلى تقليص الاعتماد غير المنضبط على العملات الأجنبية، أما على المدى البعيد فإن استبدال العملة، إذا ما أُحسن تنفيذه فإنه يشكل مدخلاً لإعادة بناء الثقة بالاقتصاد الوطني، ويشجع على الاستثمار المحلي، ويمهد لإصلاحات أوسع في القطاع المالي، ولا سيما في مجالات الرقمنة وتحديث البنية المصرفية والانفتاح المنظم على الأسواق الإقليمية.
إيجابيات مؤكدة وتحديات محتملة
ويضيف الدكتور عربش أن تنظيم السوق النقدي والحد من الاحتكار وتعزيز دور المصرف المركزي كمرجعية موثوقة، فضلاً عن دعم الاقتصاد الرسمي وتقليص حجم الاقتصاد الموازي، كلها مكاسب محتملة لهذه الخطوة، لكنه في الوقت نفسه لا ينفي وجود سلبيات أو تحديات محتملة في بدايات التنفيذ، إذ قد يواجه الاقتصاد نوعاً من الارتباك أو المقاومة الأولية، خصوصاً إذا غابت الشفافية أو ضعف التواصل مع المواطنين، أو في حال لم تُدَر السيولة النقدية والمخزونات بالشكل الصحيح.
من هنا يشدد عربش على أن الثقة والوضوح والحوار المستمر مع مختلف الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية تشكل عناصر حاسمة لتفادي أي آثار سلبية.
طمأنة المواطن أساس النجاح…
وفي ما يتعلق بطمأنة المواطنين، يلفت عربش إلى أن القلق الشعبي لا يعالج بالتصريحات العامة، بل بإجراءات عملية وجدول زمني واضح ومعلن وغير مفاجئ. ويعتبر أن تحديد فترة زمنية معقولة وواضحة لعملية الاستبدال، ترافقها حملات توعية رسمية ولقاءات دورية مع النقابات والاتحادات المهنية وممثلي المجتمع، من شأنه أن يبدد المخاوف ويمنع التسرع أو الفوضى في تبديل العملة. ويؤكد أن إصدار العملة الجديدة عملية مدروسة ومعقدة وليست إجراءً عشوائياً، ما يتطلب إدارة دقيقة ورسائل طمأنة ثابتة ومتواصلة.
دور الصرافة والمصارف في الانتقال
أما عن دور محال الصرافة والمصارف فيرى عربش أنها تشكل حلقة وصل أساسية بين العملة القديمة والجديدة، وأن إشراكها بشكل منظم وشفاف في عملية الاستبدال يمنحها بعداً مؤسساتياً ويخفف العبء عن المواطن، فهذه الجهات بحكم انتشارها الجغرافي وخبرتها، قادرة على تسهيل عمليات التبديل، وضمان السيولة وتسجيل المعاملات بما يعزز الشفافية، شرط أن تعمل تحت إشراف ورقابة واضحة من الجهات الرسمية، وأن يُستثمر هذا الدور في إعادة بناء الثقة بالقطاع المصرفي.
الإصلاح المالي وبناء الثقة…
ويؤكد عربش أن نجاح عملية استبدال العملة لا يقتصر على بعدها النقدي، بل يرتبط مباشرة بمسار إصلاح القطاع المالي ككل، من خلال تقليص الدولرة غير الرسمية وتعزيز الاعتماد على العملة الوطنية، وحماية الاحتياطيات وبناء علاقة أكثر توازناً بين المواطن والمؤسسات المالية، ويعتبر أن الحوار المستمر مع الفعاليات الاقتصادية والمهنية عنصر أساسي في تحقيق هذا الهدف.
العدالة الاجتماعية والضمانات الشرعية
وفي البعد الاجتماعي والشرعي، يشدد عربش على ضرورة مراعاة العدالة وحماية حقوق المواطنين، ولا سيما الفئات الضعيفة والمغتربين، ويؤكد على أهمية الشفافية والتوزع الجغرافي العادل لمراكز الاستبدال، وضمان حقوق السوريين داخل البلاد وخارجها، مع البدء المبكر بإعداد موازنات موحدة للشركات بالعملة الجديدة، والابتعاد عن الدولرة لتعزيز الوحدة الاقتصادية. كما يدعو إلى اتخاذ إجراءات واضحة تحمي الودائع وتمنع أي شكل من أشكال الاحتيال، وتضمن تبادلاً عادلاً ومجانياً خلال فترة محددة، تحت رقابة قضائية مستقلة.
ويختم عربش بالتأكيد على أن استبدال العملة، إذا ما أُنجز وفق رؤية واضحة وعدالة اجتماعية وشفافية عالية، يمكن أن يتحول من مصدر قلق إلى فرصة حقيقية لتعزيز الثقة بالاقتصاد الوطني، وتجنب تجارب سلبية عاشتها دول أخرى عندما غابت الجاهزية والوضوح قبل وأثناء تنفيذ مثل هذه الخطوات المصيرية.