الحرية ـ جواد ديوب:
هل نحن لسنا كما نبدو عليه في الواقع؟ هل نخفي حقيقتنا خلف أقنعة متعددة لدرجة تبدو عندها أفعالُنا مجرّد أدواتٍ تزييفيّة؟
ربما يريدُ كل شخص أن يقدم أو يعبّر عن شخصيته/شخصيتها بطريقة تعطي عنه/عنها صورة محددة أمام الآخرين؛ ولهذا من الطريف والغريب معرفةُ أن كلمة الشخص «Person» باللغة الإنكليزية تعني في أحد معانيها أو أحد أوجهها: قِناع! كأنّ الكلمة التي نستخدمها للدلالة على “الكائن البشري” هي في ذاتها كلمةٌ مُلغَزةٌ تُخفي أكثر مما تُبدي، وتُبطِنُ أكثر مما تُظهِر.
بل يقال إن أصل كلمة “النفاق” مستمدة من المصطلح اليوناني “hypocrisis” والذي يعني: محترِفُ التمثيل. حيث كان الممثلون اليونانيون يرتدون الأقنعة وفقاً للأدوار التي يلعبونها على خشبة المسرح، لذلك صارت إحدى تعريفات النفاق هي أن يختبئ الشخص وراء قناع! كما في المسرح الكبير الذي اسمه الحياة هناك ممثلون وممثلات يلعبون أدواراً مخفية تحت أقنعةٍ ملونة لكن هذه الأقنعة في الحقيقة ليست مجرد شكل ديكوريّ تزييني إنما هي كينونة نفسية معقدة.
من نسيج هذه الفكرة صغتُ سؤالاً محورياً: كيف غيّرتْ فكرةُ القناع علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين؟ بمعنى هل قاربت بيننا أم زادت الالتباس والغموض أم حسّنتْ من انتباهنا إلى دواخلنا أكثرَ من الاهتمام بمظهرنا، إذ إن الإنسان يتحول إلى شخصٍ آخر بمجرّد أن يلبس قناعاً ما حتى لو من قبيل اللعب والتسلية.
اللغةُ قناع!
الكاتبة فدوى العبود ردّت على سؤالي بتساؤلاتٍ إشكالية زادته التباساً على التباس حين قالت: «هذا السؤال يحيلنا إلى دلالاتٍ كثيرة، فما الذي يمثله الوجهُ مثلاً؟ أليسَ الوجهُ قناعاً بطريقة ما؟ هل هو مرآة حقاً؟ ألا تخفي الدمامة أحياناً جمالاً مستتراَ ( دعنا نتذكّر أحدب نوتردام) ألا تخفي براءة الوجه قسوة كبيرة؟! الأقنعة لم تكن –بطريقة أو بأخرى- سوى أداة إظهار، لقد كشفت لنا عجزنا وهذه هي المفارقة. وفي كل تراجيديا هناك لحظة ساخرة، ربما القناع حماية وإخفاء في جانب، وإظهار وكشف في جانب آخر.
العبّود غزلتْ أفكارها بمغزل الشعرية الرهيفة وأكملت كما لو أنها تبوح لنفسها: «المشاعرُ أقنعةٌ مؤقتة تتبدل، الأفكار قد تكون أقنعة، والبعض يرى أنّ الزهدَ في الحياة قِناعٌ يُخفي خيبة. فهل يمنع القناعُ التدفقَ المباشر للذات أم إنه طبيعتنا الدائمة؟ ألا نضطر لوضع أقنعة اجتماعيّة في المجتمعات التي لها محاذيرها؟ أما عن القرب والبعد فهذه مسألة شائكة، البشر أكثر قرباً من أي وقت مضى إلى أنفسهم وأكثر بعداً عنها لأنهم ينسون أو يتناسون وجود المرآة «الآخر»، أرى القناع كحالة جماليّة، ونحن كائنات جماليّة نحاول تجميل كل شيء، بدءاً من قناع اللغة والكذبات الصغيرة، نحن الكائنات الوحيدة التي تضحك وهي تبكي في الأعماق أو تبكي وهي تضحك، الكائنات الوحيدة التي تجيد استخدام الأقنعة، وبعيداً عن القناع في الفن؛ فهو في الحياة يزيدنا اغتراباً وبؤساً».
«عيد الوجه التاني»
في مسرحية الرحابنة «هالة والملك» تغنّي إحدى الشخصيات: «الليلة عيد الوجه التاني والفرح بيزيد، بمدينة سيلينا بيصير فيها عيد، وكل واحد بيختار شخصية لحالو، وبيعيش فيها بـ هالليلة متل ما طالع عبالو.. اطلعوا من حالكن واحكوا ياللي ببالكن».
أتلمّس هنا كم هو «عيدُ الوجه التاني» أو مسرحية الأقنعة ذريعة جميلة وذكية ضمّنها الرحابنة في مسرحياتهم ليجعلوا الناس يقولون ما في دواخلهم بحرية وجرأة تتيحها لهم لعبة التمثيل، ولا تتيحها لهم الأعرافُ التحريمية الضاغطة والخوف من السلطة.
في هذا السياق الكرنفاليّ يتذكّر أستاذ الفلسفة يحيى زيدو رحلته إلى ألمانيا ويروي لنا حادثة شخصية حصلت حين زار مدينة ميونخ عام 2007 حين كانت احتفالات عيد الفصح، وفي الساحة الواسعة للكاتدرائية الكبرى في المدينة وعلى الأرصفة، يقول: رأيتُ تماثيلَ عملاقة (يصل طول بعضها إلى حوالي ثلاثة أمتار) ترتدي أقنعة شخصياتٍ مأخوذة من الكتاب المقدس أو من الأساطير والحكايات الخرافية ومن شخصيات التراث الشعبي لبعض الثقافات التي يتحدّر منها بعض المهاجرين في ألمانيا. كانت هذه التماثيل تقف على قوائم خشبية مغطاة بالثياب كي يبدو طولها طبيعياً، وكلها مطلية بألوان ذهبية ونحاسية وبرونزية أو سوداء أو برّاقة، تقف صامتة من دون أي حركة، اخترتُ التقاط صورة لي مع تمثال لامرأة بلباس يشبه لباس الساحرات -الكلام لا يزال للأستاذ زيدو- وحين وقفت بجانبها فوجئت بيدها على كتفي وهي تبتسم لي ابتسامةً خفيفة، فشعرت بالحرج والإرباك لأنني كنتُ أعتقد أنها تمثال صامت ودهشتُ عندما عرفت بأنها إنسان حي يرتدي قناعاً»!
لكن زيدو يحرف جوابه باتجاه الحاضر وحيثياته الراهنة بعيداً عن حلاوة الذكريات وطلاوة بريقها ويحيلنا إلى مقولة «الإنسان المعزول» ففي رأيه ومع انتشار ثقافة ارتداء القناع في الحياة اليومية وبعد أن كان ارتداؤه طقساً دينياً أو فنياً ترفيهياً اتسعت دائرة الشك والريبة بين البشر كذوات إنسانية، وتحول «الآخر» إلى مجرد جسد مشكوك به أو «عدوّ» يُخفي ما يخفيه ما يقلص مساحة التفاعل الاجتماعي بين البشر ويكرس مقولة «الإنسان المعزول» الذي سيكون من السهل التحكم به وتوجيهه».
أقنعةُ الهلع!
في مقابل تلك الخفّة الساحرة عند الرحابنة والتي تُلطّف من رعب ما نعيشه يبقى سؤال «مَن نحن؟» معضلةً وجودية منذ البدء تزيدها التباساً أفكارُ تلك المسرحيات الذكية والشفافة، معضلةٌ حاول الفنان التشكيلي اسماعيل نصرة الإجابة عنها رسماً وألواناً اختزنتْ أرقَ لياليه وهواجسه.
يقول لنا: «ليس بالضرورة أن يكون ارتداء القناع شيئاً سلبيّاً أو طبعاً رديئاً؛ فعندما أتصنّع الفرح بين مجموعة أصدقاء فيما يأكلني حزنٌ داخليّ أظن أنني بذلك أكون قد جنّبتهم همّاً وعبئاً هُمْ في غنىً عنه. وهذا ما حفّزني أساساً لأتناول موضوع المهرّج ليكون بطلَ لوحاتي، وكلّ ذلك بتأثير الأقنعة النفسيّة في مجتمعات مثل مجتمعاتنا التي يتآكلُها الخوف والضعف في مواجهة أمراضها وعدم التصالح مع الذات».
لكنّ نصرة ابن الواقع وتفاصيله بكل قسوتها والشروخ التي تتركها في الأرواح لذلك يتذكر أنه عندما عمّت العالم جائحة (كورونا)؛ رأينا الأقنعة الإلزامية المنسوجة بخيوط الهلع والترقب والحذر، أصبحنا أكثر انعزالاً وأكثر خوفاً من غيرنا وعلينا. لقد جسّدتُ هذه المشاعر بأعمال فنّية فيها مزيج من الخوف والحب والأنانية، إذ بمجرد أن يرتدي أحدُنا قناعاً ما مهما كان شكله يتحوّل في داخله إلى كائنٍ آخر بشكل تلقائي وغريب».