الحرية- سامي عيسى:
سؤال له أهمية كبيرة، هل ينقذ “الاستثمار الخاص” مصير شركات الإسمنت..؟!
حقيقة لا نستطيع الخروج من دائرتها، تتعلق بأهمية قطاع الإسمنت وصناعته، التي تربعت لسنوات على عرش الصناعة الوطنية، بربحيتها وعائدها الاقتصادي، إلا أنها ابتعدت خلال السنوات الأخيرة عن موقعها، وتراجعت أهميتها، وترهلت صناعاتها، وبدأت تحصد خيبات الأمل لأسباب كثيرة منها ما يتعلق بظروف الإدارة وفسادها، ومنها أسباب موضوعية، جوهرها البعد عن التقنية الحديثة، والتكنولوجيا المتطورة، ما أدى لتراجع الإنتاجية والعائد الاقتصادي لها..!
بانتظار حسم الجواب
واليوم السؤال أصبحت الإجابة عنه تأخذ طريقها للتنفيذ وفق رؤية الحكومة الإنقاذية لهذا القطاع، والعودة بدورها الاستراتيجي ضمن تركيبة الصناعة الوطنية للمساهمة بأعمال إعادة الإعمار، والبلاد بحاجة إلى كميات هائلة من الإسمنت، من دون تجاهل ما يحمله هذا القطاع، من تشغيل آلاف الأسر السورية العاملة فيه، وما يتبعه من فرص عمل لاحقة له..
لكن خيار يبقى ” الاستثمار الخاص” لهذه الشركات والمعامل مثار جدل في الأوساط الاقتصادية والاجتماعية، وحتى أهل الرأي حول نجاح هذا التوجه من فشله، والإجابة الصحيحة تحكيها قصص النجاح لاحقاً…!
لأهل القطاع رأي
“الحرية” حاولت البحث عن الإجابة من خلال المنظور الاستراتيجي، ورؤية الحكومة الاستثمارية، وفق ما وضعت من خطط، ودراسات جدوى اقتصادية، تحدد ماهية هذا الاستثمار، والعائد الإنتاجي والاقتصادي المطلوبين خلال المرحلة المقبلة، حيث أكد المدير العام لشركة عمران لصناعة الإسمنت وتسويقه محمود فضيلة خلال حديثه لـ”الحرية” حول طرح الشركات للاستثمار الخاص، أن طرح المنشآت الصناعية بشكل عام أو التابعة لقطاع الإسمنت للاستثمار ليس لفقدان القدرة على إدارتها، وإنما هو بسبب الحالة الراهنة التي تمر بها البلاد.
فالجميع يعلم أن التوازن الاقتصادي يشمل إشراك القطاع الخاص في العملية الإنتاجية لعدة أسباب:
١- عدم القدرة على تمويل معامل الإسمنت والنهوض بها.
٢- تعب المعامل التي أصبحت خارج الخدمة وتجاوز عمرها الافتراضي.
٣- عدم القدرة على التنافسية في ظل سياسة السوق الحر، إلى جانب المعاناة مع التكنولوجيا وتوطين الصناعة، وبالتالي هذه الأسباب وغيرها، أدت لدراسة طرح المنشآت للاستثمار، وفق جدوى اقتصادية حددتها دراسات الشركة.
فضيلة: الدولة لم تقم ببيع الأصول وإنما طورتها وفق برنامج زمني وخطة عمل يتم الموافقة عليها لتعود المعامل للمؤسسة لاحقاً
مفردات الجدوى الاقتصادية
ويحدد”فضيلة” خلال حديثه مفردات الجدوى الاقتصادية من الطرح والعوائد التي يمكن تحقيقها، والتي تكمن في توفر السيولة “عقود شراكة بالإنتاج”، وتطوير المصانع، ونقل التكنولوجيا، وتدريب الكوادر بنظام رواتب، يضمن حياة كريمة للموظف والعامل وغيرها من نتائج إيجابية متوقعة من عملية الاستثمار.
وبالنهاية الدولة لم تقم ببيع الأصول، وإنما طورتها وفق برنامج زمني وخطة عمل يتم الموافقة عليه من قبل المؤسسة لتعود المنشأة للمؤسسة.
تحديات مختلفة وبنية متهالكة
لكن هذا لن يمر من دون تحديات منها ما هو مرتبط بطبيعة المرحلة السابقة، ومنها مرتبط أيضاً بالهوية الجديدة للمعامل والشركات المنتجة، حيث وجد ” فضيلة” مجموعات من التحديات تحتاج لمعالجات فورية، لتحقيق الانطلاقة المطلوبة في عالم الإسمنت، ويمكن توصيف هذه التحديات بعدة نقاط أساسية في مقدمتها:
1. البنية التحتية المتهالكة: خطوط إنتاج قديمة (من السبعينيات والثمانينيات) تحتاج إلى تحديث شامل.
2. عدم استقرار الكهرباء والطاقة: انقطاع الكهرباء وارتفاع أسعار الفيول أو صعوبة تأمين الفحم.
3. مشاكل النقل والتوريد: صعوبة تأمين المواد الأولية ونقل المنتج للأسواق المحلية أو التصدير.
4. التعقيدات الإدارية والبيروقراطية: طول إجراءات الترخيص والتعاقد.
5. مخاطر السوق: ضعف القوة الشرائية محلياً، وصعوبة التصدير بسبب العقوبات.
6. عدم وضوح آلية التعاقد مع الدولة: الخوف من عدم استقرار العقود أو تغير القوانين.
حلول ممكنة
وبرأي فضيلة هناك عدد من الحلول يمكن تطبيقها:
• تأمين الطاقة: اتفاقات طويلة الأمد لتوريد الوقود أو إدخال الفحم الحجري، وربما تشجيع الطاقات البديلة (الطاقة الشمسية للمرافق المساندة).
• تحسين البنية التشريعية: وضع نموذج عقد استثماري واضح (BOT أو مشاركة إنتاج) يضمن حقوق الطرفين.
• إعفاءات وتحفيزات ضريبية: لتشجيع المستثمرين في السنوات الأولى من إعادة التأهيل.
• تسهيل نقل الملكية والتصدير: فتح المجال للتصدير الإقليمي لخلق عائد بالعملة الصعبة.
• تأمين بيئة تشغيلية مستقرة: عبر إشراف الدولة وضمان العقود من خلال وزارة الصناعة أو هيئة الاستثمار.
وهنا يحدد” فضيلة” القيمة الاستثمارية اللازمة لإنعاش قطاع الإسمنت العام عن طريق المستثمرين، والمواقع التي تم طرحها للاستثمار والمواقع التي ستطرح لاحقاً بحدود ١.٧ مليار دولار خلال ٥ سنوات، مع توفير فرص عمل بشكل مباشر (ما يقارب ١٥٠٠ فرصة و ٨٠٠٠ فرصة غير مباشرة).
حنا: إعطاء فرصة للقطاع الخاص لإعادة بناء معامل الإسمنت وفق قانون الاستثمار بما يضمن حق الدولة وعمالها
توسعات الإسمنت لم تلغ جانب استيرادها
هذا من الجانب الحكومي لكن من الطرف الآخر، وخاصة أهل الخبرة في صناعة الإسمنت، يؤكد المهندس “سامر حنا” الخبير في صناعة الإسمنت أن العام 1928 حمل ولادة أول مصنع للإسمنت في سوريا، وهذه نقطة التحول الأولى في هذه الصناعة، وبدأت تأخذ مراحل تطويرية جديدة وخاصة في منتصف القرن الماضي، ورغم هذا التوسع، لم تستطع المعامل تغطية حاجة السوق السورية بالكامل بسبب النهضة العمرانية والاقتصادية، ما دفع الحكومة في فترات سابقة إلى استيراد الإسمنت بشكل مقنن لضمان استمرار المعامل بالإنتاج والحفاظ على القطاع العام.
إنتاجية بطاقات محدودة
ومن خلال المتابعة للواقع الحالي لإنتاجية المعامل القائمة يرى ” حنا” أن الواقع ليس بالمستوى الجيد”، حيث تعمل معظم خطوط الإنتاج بطاقة إنتاجية تصل في أفضل حالاتها، إلى مادون 70 % من طاقاتها التصميمية، وبالتالي هذه بدورها تحتاج إلى صيانات كبيرة، أوعمليات استبدال كاملة لتآكل عمرها الزمني، إلى جانب معاناتها الكبيرة بنقص اليد العاملة والخبيرة، بسبب هجرة الكثير منها خلال السنوات الماضية.
سؤال والإجابات مختلفة
لكن أمام هذا الواقع ثمة سؤال يراود الكثير من متابعي قطاع الإسمنت، لو توافرت القيمة الاستثمارية اللازمة لإعادة تأهيل هذه المعامل، هل تستطيع هذه المعامل القيام بالمهمة بالاعتماد على خبراتها وعمالها والوصول إلى الطاقات التصميمية المطلوبة..؟
الإجابة قد تختلف من رأي لآخر، وبين متابع وآخر، لكن حنا يجيب باستحالة الأمر لهذا السبب كانت الرغبة الواضحة في توجه وزارة الاقتصاد والصناعة في إعطاء فرصة للقطاع الخاص لإعادة بناء هذه المعامل وفق قانون الاستثمار، بما يضمن حق الدولة وحق العمال، وذلك انطلاقاً من بعض التحديات التي تواجه هذه الصناعة في مقدمتها: العمر الزمني الطويل لخطوط الإنتاج، ارتفاع سعر الفيول، وعدم توفر الخبرات الكافية حالياً، وصعوبة تأمين السيولة النقدية الكافية لترميم خطوط الإنتاج.
تزاحم للمستثمرين والنتائج مؤجلة
أمام هذا الطرح الجدي للحكومة فقد تزاحمت رؤوس الأموال المهتمة بصناعة الإسمنت خلال الفترة الأخيرة، ومن جنسيات مختلفة منها العربي ومنها الأجنبي، وشكلت وفوداً فنية ومالية قامت بدراسات مختلفة وفق رأي الخبير “حنا” تناولت الجدوى الاقتصادية وإمكانيات التشغيل للمعامل المتوقفة، أو التي تعمل بطاقة جزئية، لكن حتى هذا التاريخ لم يترجم بنتائج ملموسة على أرض الواقع، بما يحقق رغبات الحكومة ووزارة الاقتصاد والصناعة بالصورة التي ترى فيها إعادة التأهيل والإنتاجية المتوقعة لمعامل الإسمنت، تحت حجج مختلفة يقدمها المستثمرون منها ما يتعلق بالوضع الخارجي، ومنها على مستوى الوضع الداخلي.
حاجة السوق تفرض سرعة التنفيذ
وبالتالي فإن حاجة السوق المحلية المتزايدة للمادة، تفرض واقعاً ملحاً، لا يحتمل التأجيل، أو حتى تجاهل عنصر الزمن في إعادة تأهيل شركات الإسمنت وخطوط إنتاجها، لأن إعادة الإعمار ستبدأ آجلاً أم عاجلاً، من هنا يحدد الخبير الاقتصادي الدكتور فادي عياش أن حاجة سوريا السنوية من الإسمنت تُقدر بحوالي 12 مليون طن سنوياً، في حين أن الطاقات الإنتاجية الحالية تحت سقف 3.5 ملايين طن سنوياً، علماً أن الاستثمار في صناعة الإسمنت السورية مشجعاً للغاية بسبب توافر مقوماتها من المواد الأولية اللازمة والتي تكفي لصناعة الإسمنت بطاقة 5 ملايين طن سنوياً لمدة 75 عاماً، إضافة إلى العمالة المطلوبة.
عياش : الاستثمار في صناعة الإسمنت السورية مشجع بسبب توافر المواد الأولية اللازمة لصناعة الإسمنت بطاقة 5 ملايين طن سنوياً ولمدة 75 عاماً
إجراءات حكومية واعدة
جملة من الإجراءات اتخذتها الحكومة لتطوير قطاع صناعة الإسمنت وفق رأي”عياش”، حدد أهمها بالإعلان عن استثمارات واعدة تفوق قيمتها 7 مليارات دولار في هذا المجال، ومن أبرز المشاريع التي تم توقيعها مؤخراً: “اتفاق مع شركة عراقية” وفق نظام التشاركية بصيغة “BOT” لتطوير وتشغيل مصنع إسمنت حماة، بهدف رفع الطاقة الإنتاجية من 3300 طن يومياً إلى 5000 طن يومياً من مادة “كلنكر” خلال 13 شهراً، وإنشاء خط إنتاج جديد بطاقة 6000 طن يومياً، واتفاق آخر مع شركة إماراتية لتأهيل وتطوير خط الإنتاج الثالث في مصنع حماة أيضاً، والجانب الأهم هنا العمل على ترخيص مشاريع جديدة كاستثمارات خارجية مباشرة، منها إنشاء معمل جديد في ريف دمشق بالشراكة مع الصين، وتدشين أول مصنع للإسمنت الأبيض في مدينة عدرا الصناعية باستثمار سعودي.
اعتماد تشاركية BOT”
وبالتالي فإن غالبية الاتفاقيات المتعلقة بتحديث وتطوير صناعة الإسمنت تعتمد صيغ التشاركية مثل “BOT” (البناء والتشغيل والتحويل)، والتي تسمح لشركة عمران بتأمين التمويل اللازم، والتأهيل الفني والتقني والتشغيل الأمثل لمصانعها بعائد استثماري مناسب، مع احتفاظها بحقوق الملكية بعد انتهاء فترة الاستثمار.
وبالتالي ترجمة هذه المشروعات على أرض الواقع من شأن الصناعة الاسمنتية السورية امتلاك الطاقات الكاملة لتغطية حاجة السوق المحلية، والانطلاق بالفائض الإنتاجي نحو الأسواق العالمية بميزات تنافسية أهمها الجودة والسعر، وهذا جل ما نتمناه لصناعتنا الوطنية أفراداً وحكومة.