الحطيئة وفن الهجاء.. بين العبقرية الفردية والمرآة الاجتماعية

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية – علي الرّاعي:

يُروى عن «شوبنهاور» قوله: «إن حس السخرية هو الصفة الإلهية الوحيدة الموجودة في الإنسان»، فيما يرى «دوستويفسكي» السُّخرية هي الملاذُ الأخير للشعوب.. وأما (سينيكا)، فيرى أن السخرية من الحياة، هي سلوك أكثر تحضراً من الانشغال بندب حظنا العاثر تجاهها، وهو ما ينسجم مع رؤية الكوميدي (ريكي جريفيز) الذي يرى أن السخرية من الذات، والتهكم على تراجيديا الآخرين والكوميديا السوداء تجعل الحياة قابلة للعيش.
فالحياة بما يُكثفه هؤلاء، هي أقصر بكثير من أن ناخذها على محمل الجد، ومن هنا يصعب الذهاب إلى أن أهاجي الحطيئة، لم تكن وليدة الظرف الموضوعي المبسوط في تاريخ الأدب، بل كانت، قبل سواها، وليدة العبقرية، ونتيجة التكوين الشخصي الذاتي للشاعر الذي تعلّم نظم الشعر، وامتلك رؤية جمالية خاصة به، تجلت في كل ما نظمه.
فالشعر، في نهاية المطاف، هو ابن اللحظة والإحساس معاً، وهو حصيلة تفاعل مركب بين الذات المبدعة والعالم المحيط.

عبقرية الحطيئة

غير أننا لا نستطيع، بطبيعة السياق التاريخي، تنحية العوامل الموضوعية المتمثلة بمجمل الظروف السيئة التي اكتنفت ولادة الحطيئة ونشأته، ولكنها تبقى عوامل ضئيلة الشأن إذا ما قورنت بقوة العبقرية الفردية التي تفجرت فيه، فالأغلبية الساحقة من المسحوقين اجتماعياً تتعايش مع ظرفها المتدني، وقد تسعى إلى تغييره بوسائط سياسية – عنيفة أحياناً – كالثورات والانتفاضات التي أحدثها المقهورون عبر التاريخ، أو بوسائط فردية متمثلة بالسعي نحو تحسين الأوضاع الشخصية.

خانة الندرة

لكن الذين انتهجوا نهج الحطيئة، محولين ألمهم إلى فن لاذع، ينتمون إلى خانة الندرة النادرة. فلنتخيل، على سبيل المثال، أولئك المنبوذين في نظام الطبقات الهندي، والذين يحاصرهم اليأس من المهد إلى اللحد، أيمكن لعبقرية فنية أن تزهر في تربة مماثلة؟ الإيحاء بأن القهر الاجتماعي وحده ينتج فناً هو إغفال لأسطورة الروح المبدعة التي تتحدى الظلام لتخلق من الأشواك أكاليل.

أكاليل من الشوك

كان تصوير ذوي العاهات الاجتماعية، وتشريح الآفات التي تنخر في جسد المجتمعات، من الموضوعات الأثيرة التي اجتذبت الإبداع الفني عبر العصور، فكانت الكوميديا الإغريقية القديمة تنتشل العيوب البشرية لتضعها تحت مجهر الضحك والنقد، ثم ورثت هذه المشعلَ الفنونُ السردية والدرامية في عالمنا المعاصر، من رواية وقصة ومسرح، دون أن ننسى فن الكاريكاتير التشخيصي الساخر الذي يختزل المفارقات في خطوط بسيطة عميقة الدلالة.

مساحة للهجاء

وفي صميم تراثنا الثقافي العربي، احتل الهجاء مساحةً متميزة، وكان له وقعه الحاسم المؤلم. فالقول بوجود قبائل وأشخاص ذهب فن الهجاء بكرامتهم قولٌ يستند إلى سياق ثقافي واجتماعي ثابت. فلنتذكر مصير (بني نمير) تحت سهام (جرير) اللاذعة، أو ذلك المشهد الأليم (للزبرقان بن بدر) وهو يستمع إلى الحطيئة يهجوه بقصيدته اليائية الخالدة:
“دَعِ المكارِمَ لا تَرحَل لِبُغيتِها
وَاقعُد فَإِنَّكَ أَنتَ الطاعِمُ الكاسي”.
وكذلك محنة شخص اسمه (تسنيم) في أحد الأبيات اللئيمة لبشّار بن برد، بل إن الهجاء تجاوز الأفراد والعشائر ليصل إلى ذروة السلطة نفسها، فلم يسلم منه خلفاء كبار في العصرين الأموي والعباسي، كما حدث عندما سلط (دعبل الخزاعي) سهام لسانه على الخليفة (المعتصم) نفسه.

المادة الخصبة

وهنا تبرز إشكالية أخلاقية وجمالية في الوقت ذاته: لماذا يزدهر الهجاء؟ الجواب ربما يكمن في أن المثالب والمخازي والآفات الاجتماعية المذمومة هي الأكثر شيوعاً وانتشاراً في معظم المجتمعات، ما يوفر مادة خصبة لا تنضب للساخرين، لقد أدرك الشاعر «عبدان» هذه الحقيقة المفارقة عندما فضل الهجاء على المديح قائلاً:
“وقالوا في الهــجاء عليك إثمٌ
وليــــس الإثم إلاّ في المديحِ
لأنّي إن مدحتُ مدحت زوراً
وأهجو حين أهجو بالصحيحِ”
هذه الرؤية تضعنا أمام سؤال جوهري: أي الفعلين أكثر إثماً؟ أن تمدح باطلاً فتزيّن القبيح، وتُضفي شرعيةً على ما لا يستحق، أم أن تهجو بحق فتكشف العورة الاجتماعية، وتنزع القناع عن الوجوه الزائفة؟
وعلى ما يروي مانويل دي بيدرولو (1918-1990)؛ فإنّ “السخرية تزيل السموم من المخ وتحمي التوازن النفسي، والسخرية كذلك صمّام أمان يمنع المِرجَل من الانفجار”، ومن ثمّ فالهجاء، في هذه الحالة، يتحول من مجرد نزعة شخصية للإيذاء إلى فعل مقاومة بالكلمة، إلى نوع من التطهير الاجتماعي (الكاثارسيس) الذي تمارسه المأساة الإغريقية، لكنه هنا يأتي عبر آليات السخرية والتفكيك.

فنٌّ بحدين

ومع ذلك، يبقى الهجاء فناً ذا حدين، فهو من ناحية، يمكن أن يكون سلاحاً مشروعاً في وجه الظلم والانحراف، ومن ناحية أخرى، يمكن أن يتحول إلى أداة للابتزاز والإفساد، كما في حالات “التشبيب” بنساء القبائل في التراث العربي، والتي كانت تهدف إلى الإذلال والإضرار بالسمعة بلا سبب وجيه، الفارق هنا هو الجوهر الأخلاقي والغاية الجمالية، فالهجاء الفني الراقي لا يهدف إلى الإيذاء المجاني، بل إلى النقد البناء، حتى وإن كان قاسياً، إنه يحفر في الأعماق ليستخرج القبيح ويعرضه للضوء، أملاً في أن يثير ذلك نوعاً من الاشمئزاز الذاتي أو الجماعي الذي قد يقود إلى التغيير.

صوت المقهورين

في الختام، يمكن النظر إلى فن الهجاء ليس مجرد تعبيرعن عبقرية فردية طليقة، ولا كرد فعل آلي على قهر موضوعي صرف، بل كظاهرة إبداعية معقدة تنشأ في نقطة التقاء الشخصي بالعام، والذاتي بالموضوعي. إنه صوت المقهور الذي امتلك سلاح الكلمة، والعبقري الذي وجد في عيوب مجتمعه مادة خصبة لإبداعه. وهو، فوق كل هذا، شهادة على أن الفن لم يكن يوماً مجرد ترف جمالي، بل كان ولا يزال سلاحاً فعّالاً في معركة الإنسان المستمرة من أجل الحقيقة والكرامة.

من سيرة الحطيئة

وبالعودة للشاعر الهجّاء الذي حثنا لكتابة المقال، أبو مُلَيْكَة جَرْوَلُ بنُ أَوْسِ بنِ مالِكٍ المعروف بالحُطَيْئَةِ عاش في القرن السادس الميلادي، وتوفي سنة (674)، وهو شاعر عربي مخضرم من أهل نجد وكان أسلم في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ارتدًّ، ثم أسرع وعاد إلى الإسلام، وقيل إنه صحابي من رواة الشعر (ولد لدى بني عبس من أَمةٍ اسمها (الضراء) فشبّ محروماً مظلوماً، لا يجد مدداً من أهله ولا سنداً، من قومه، وكما تروي سيرته فقد اضطر إلى قرض الشعر ليجلب به القوت، ويدفع به العدوان، وينتقم به لنفسه من بيئةٍ ظلمته، ولعل هذا هو السبب في أنه اشتد في هجاء الناس، ولم يكن يسلم أحدٌ من لسانه فقد هجا أمّه وأباه وهجا نفسه كذلك.

Leave a Comment
آخر الأخبار