الوجع لغة كونية.. محطّات في تاريخ مسح الدموع !

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية- حنان علي:

“لو رفعت جدراناً حول قلبك لتحميه من الحزن، فاعلم أنك تبني سجناً يحبس عنك الفرح”. ربما لم يعرف (جيم رون) حكيم التنمية البشرية الأمريكي، كمّ الجراح التي أثقلت كاهل أرضٍ منكوبة ما فتئت تنزف أحلامها بانتظار الفرح!
وإن حاولنا – كما نصح (أرسطو)- أن نقتلع السعادة من أعماق أنفسنا، ألسنا نكذب على ذواتنا حين نرسمُ ابتسامةً زائفةً على شفاه خيباتنا؟
فأين شمس (طاغور) التي تُشرق في الأعماق؟ وهل تكفي قهقهةٌ – كما أراد (مارك توين) – لترميم أرواحٍ محطمة؟ أم إن الحلّ نجده عند (زوربا)- فنغمض أعيننا كي لا نرى البؤس؟
منذ الأزل والشجنُ يفتت جوارح البشر، فيما نسجت كل ثقافة رداءها الخاص لاحتوائه، متكئة على الفلسفةِ أو الدينِ أو الفنِّ أو الطب. فهل نجدُ في تراثِ الأممِ السابقةِ إجاباتٍ تهدأ من أشجاننا؟ أم إنَّ ثقل الوجع، سيبقى سراً وجودياً لا يفكُّ طلاسمه سوى زمنٍ آخر؟

طب وطقوس جماعية

عندما حاول أبقراط تفسيرَ الكآبة، رأى أنها اختلالٌ في أخلاطِ الجسد، لكنَّ اليونانيين لم يقفوا عند حدودِ الطب. فقدَّمت المدرسة الرواقية، التي أسسها زينون السيشومي، بداية القرن الثالث قبل الميلاد، رؤيةً فلسفيةً تقوم على ضبطِ النفسِ والعقلانية، بينما حوَّل شعبه الفنَّ والأدبَ إلى ملاذٍ يخفِّفُ من وطأةِ الأحزان.

الطب والفلسفة والرياضة طقوس تذيب الأحزان!

آمن الرومان بأنَّ العملَ والأسرةَ والدينَ أعمدةٌ تُقوّي النفوسَ المنهكة، كما وجدوا في الرياضة والمسابقاتِ العامة طقوساً جماعية تُذيبُ الوحدةَ في بوتقةِ الفرحِ الجماعي.

موسيقى الأبدية

لم يكن المصريون القدماء أقلَّ حكمةً في مواجهةِ الحزن. فبين ألحانِ النايِ وحركاتِ الرقصِ، وجدوا سلوى للقلوبِ المتعبة. حتى نصائح (بتاح حتب) الحكيم المصريّ، ما زالت تتردَّدُ بصداها عبرَ القرون: “الظلمُ كثيرٌ، لكنَّ الشرَّ لا يطيل الانتصار” . ولم يغفلوا عن دورِ الأعشابِ والعلاجاتِ الطبيعيةِ في استعادةِ التوازنِ الجسديِّ والنفسيِّ، مؤمنين بأنَّ الشفاءَ رحلةٌ لا ينفصلُ فيها الجسدُ عن الروح.

صلواتٌ وأناشيد

في سهولِ ما بين النهرين ومناطق بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، استند الإنسانُ إلى الدعاءِ وأداء الطقوسِ الدينيةِ طلباً للخلاص. وكانت حكمةُ النص الأكاديِّ القديم تُذكّرُ البابليين بأنَّ السعادةَ تكمنُ في الكرمِ والفضيلة: “أطعِمْ الجائعَ، واسقِ العطشانَ، تُرضِي الآلهةَ فتباركْ حياتَك”.

الناي والصلاة علاجٌ للنفوس الثائرة قبل آلاف السنين

كما تحوَّل الشعرُ والموسيقى والقصصُ إلى أدواتٍ تُحرِّرُ المشاعرَ المكبوتة، بينما ساعدت الأعشاب والعلاجاتُ التقليديةُ في تهدئة النفوسِ.

التوازن والطاقة

رأى الصينيون القدماء أنَّ الحزنَ اختلالٌ في تدفقِ الطاقة، فابتكروا الحلول عبر الوخزَ بالإبرِ والتأملَ لاستعادةِ الانسجام. أما في الهند، فقد آمنوا بأنَّ الحزنَ دليلٌ على بُعدٍ روحيٍّ أشد عمقاً، فجعلوا من اليوغا والصلاة طريقاً إلى التنوير، واتخذوا من الممارسات البدنية والروحية جسراً يربطُ الإنسان بالكونِ وبذاتِه.

توازن بين المشاعر والإيمان

عالج الإسلام الحزن برؤية متوازنة تجمع بين الاعتراف بالمشاعر والنهي عن القنوط والدعوة للتصبر.

الحزن اختلالٌ في الطاقة وعلاج صيني بالإبر والتأمل

فلم ينكر مشروعية الحزن، بل قدّره في قصص الأنبياء كقصة النبي يعقوب عليه السلام. كذلك نهى عن الاستسلام محذراً من مغبة الحزن المفرط المعيق عن العمل {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران ١٣٩]
كما وجه نحو اليقين بالعزة الإلهية {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس:65] والتحلي بالصبر والعمل المنتج {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة:45]، وذلك قبل تحويل الألم والصبر إلى أجر وطريق للرفعة {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].

التشافي الحديث:

تتعددُ اليوم وسائلُ مواجهةِ الحزنِ، بدءاً من اللجوء إلى العبادة وزيارة الأماكن الدينية وصولاً إلى ارتياد العيادات النفسية، أو الاستعانة ببعض الطقوس الغريبة المثيرة للدهشة أمثال الضحكِ الهستيريِّ والاستحمامِ الصوتيِّ أو العلاجِ بالضوء او حتى احتضان الحيوانات الأليفة.

تقول الحكمة الصينية: “في صراع الماء مع الصخر، يفوز الماء بمرور الوقت. وأنتهي مع غوستاف فلوبير : “الحزنُ يصنعُ أشياءَ رائعة، لكنه لا يخلقُ جديداً” فهل نستطيعُ، نحن أبناءَ هذا العصر، أن نبتكرَ طرقاً جديدةً للتعافي من مكابداتنا، أم إننا سنكتفي بإجابات تختصر أحزان الغابرين؟

اللوحة بعنوان كآبة للرسام الفرنسي لويس جان فرانسوا لاغرينه (1724 – 1805) .

Leave a Comment
آخر الأخبار