الحرية – رنا بغدان:
وصفه الشيخ علي الطنطاوي يوماً بأنّه: “سطرٌ من الحكمة الإلهية, خطّته يد الله على صفحة هذا الكون, ليقرأ فيه الناس ببصائرهم لا بأبصارهم فلسفة الحياة والموت, وروعة الماضي والمستقبل واختصت به الأمة العربية, فجمعت فيه تاريخها الجليل ببلاغة عٰلوية متفجرة..
إنّه “بردى” نهر دمشق الأعظم وشريانها الدافق بالحياة الذي قلما تُذكر دمشق دون ذكره فقد تغنى به الشعراء على مدى العصور ودوّنه المؤرخون في مؤلفاتهم، وزيّن الفنانون بتفرعاته المتماوجة وثماره اليانعة النضرة لوحاتهم الفسيفسائية الخالدة التي تصوره ماراً بين منازل دمشق, فمنذ فجر التاريخ كانت للنهر أهمية كبيرة وقامت على ضفافه أحداث هامة…
و”بردى ܒܪܕܐ” من أعمال دمشق, تسميته سريانية تعني “البَرَد” وإسمه القديم “فرفر” وهو آرامي قديم يعني “السريع” وقالوا يعني “الأعرج” نسبة لطائر بهذا الاسم كان يكثر على مجاريه في حين سمته العرب “بردى” لبرودة مائه.
ويذكر “ابن عساكر” في تاريخه أنّ اليونانيين القدماء أطلقوا عليه اسم “خرُّيسورواس” أي نهر الذهب أو نهر “بارادايس أو باراديوس” أي “نهر الجنة” أو “نهر الفردوس” ومنه سُمي بـ “البريص” وأسبغوا عليه صفة القداسة، فقد كان من عاداتهم تأليه الأنهار والينابيع، ومن هنا أقيم على ضفته اليمنى معبد “حدد” الآرامي ومعبد “جوبيتر” الروماني. كما ذكرته كتب التاريخ القديم باسم نهر “باناس” أو “أبانه” نسبة إلى منبعه الصخري فـ”أبانه” كلمة آراميّة تعني “الصخور المشقّقة” أو “صخري” وقد ورد في بعض النسخ بلفظ “أمانة” التي تعني “دائم” أو “مستمر الجريان”, ودعاه أسطفان البيزنطي منذ القرن الخامس للميلاد بنهر “برونيس” إضافة إلى ذكره في العهد القديم من الكتاب المقدس. ونجد “نفطويه” يتحدّث عن منبعه فيقول:
(هو “بردى” مخرجه من قرية يقال لها “قنوا” وهو اسم آرامي قديم معناه القصب).
والجدير ذكره أنّ بردى “بَرَدَا” نهر في دمشق ينبع من “نبع بردى” في جنوب الزبداني على سلسلة الجبال السورية شمال غرب دمشق ويصب في بحيرة “العتيبة” جنوب شرق مدينة دمشق ماراً بمدينة دمشق ودمشق القديمة والغوطة وله سبعة أفرع، وكانت تتفرَّع منه قنوات كثيرة “سواقي” بدءاً من التكية التي تسقي الأراضي المنخفضة في وادي بردى وتدير الطواحين على ضفتيه، وتقدَّر السواقي بخمس وأربعين ساقية تروي مختلف البساتين والقرى على كتفي الوادي.. فالحياة في وادي بردى قديمة جداً وقد ازدهرت دمشق منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد في العصر الآرامي، وكان الوادي طريقاً للقوافل بين دمشق وبعلبك.
وقد صدق الشاعر أحمد رامي حين قال فيه:
يا روضةً في ربوع الشامِ يانعةً
ترنَّم الطيرُ فيها وهْوَ نشوانُ
يا روضةً بَرَدَى في وَشْيِ بُرْدَتِه
يختالُ بين رباها وَهْوَ جَذْلانُ
على حواشيكِ أمجادٌ مخلدةٌ
لها من الذكر تاريخٌ وديوانُ..
في حين أبدع الشاعر سعيد عقل التي رنّمت فيروز كلمات قصيدته:
مُرَّ بِي يا وَاعِداً وعداً
مثلما النسمَةُ من بَرَدَى
تحمِلُ العُمرَ تبَدِّدُهُ
آهِ ما أطيبَهُ، بَدَدَا
أنا حُبِّي دَمعةٌ هَجَرَت
إن تعُد لِي.. أشعلَت بَرَدَى
لي فيك يا بردى عهد أعيش به
عمري و يسرقني من حبه العمر..
ونختتم بأبيات الشاعر الدمشقي المهجري جورج صيدح الذي ظلّ لصيقاً بتراب وطنه وعاشت الشام بين جوانحه مقيماً ومرتحلاً حين قال:
حلمتُ أني قريبٌ منك يا بردى
أبلُّ قلبي كما بلَّ الهشيمَ ندى
دمشق أعرفها بالقبّة ارتفعت
بالمرجة انبسطت بالشاطئ ابتردا
تغوص في لجك الثرثار ذاكرتي
على الأغاني التي أسمَعَتني ولدا
فأنثني وربيع العمر عاودني
كأنني لم أُضعه بالنّزوح سدى
يا مورد الغوطة الفيحاء ما بخلت
بالأطيبين وما ضاقت بمن وَرَدا…