الحرية- ميسون شباني:
سوريا تستقبل العالم.. وتعيد فتح بوابة الشرق اليوم من خلال معرض دمشق الدولي بنسخته الـ62، وتجعلنا نستذكر معها لحظاتٍ عصفت بذاكرتنا.. محملّة بشجونٍ عاشها الكثير من السوريين وهم يروون حكاياتهم وأفراحهم القديمة التي عاشوا تفاصيلها خلال زيارتهم له، ولطالما أشرق في أحاديثهم مع الأصدقاء والأحبة عبر ليالٍ قضوها مع أغاني فيروز وعمالقة الطرب وسهرات العائلة في حفلات المعرض.
*بوابة الشرق الثقافية
وعن هذه التظاهرة الحضارية والثقافية يؤكد المغني الأوبرالي الموسيقي فادي عطية بأن دمشق هي بوابة الشرق الثقافية، ولطالما حافظت على دورها الثقافي التاريخي وبالنظر على الدور الذي لعبته دمشق في إطلاق الثقافة مع بداية القرن الماضي، نجد أنها كانت من أهم المنابر الثقافية لإطلاق الفنانين والأعمال الفنية في المنطقة والعالم.. فعلى سبيل المثال أطلق أسطورة السينما شارلي شابلن أحد أهم أفلامه “أضواء المدينة” من دمشق سنة ١٩٣٢ في سينما زهرة دمشق، وبعدها حافظ كبار الفنانين على تواجدهم في أهم منبر سوري سنوي لإطلاق الفنانين والأعمال الفنية، وهو مسرح معرض دمشق الدولي الذي أطلقت منه السيدة فيروز أجمل قصائد دمشق الحاضرة في الوجدان.. نذكر منها “سائليني يا شآم” سنة ١٩٦٠، “قرأت مجدك” سنة ١٩٦٢، “شام يا ذا السيف” سنة ١٩٦٣ و”ياشام عاد الصيف” سنة ١٩٧٦.. وهذه الأمثلة غيض من فيض.. كما كان معرض دمشق الدولي فرصة لزيارة كبار الفنانين وتقديم جديدهم.. فقد شارك فيه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب سنة ١٩٥٧ بحضور الرئيس فخري البارودي، كما زارته سيدة الغناء العربي أم كلثوم في العام ذاته ١٩٥٧ وقدمت (يا ظالمني) والفنان الكبير عبد الحليم حافظ في العام ١٩٧٦ قدم خلاله أغنيات مثل “في يوم من الأيام” و”قارئة الفنجان” و”أول مرة”.. ولم يقتصر معرض دمشق الدولي على حضور الفنانين العرب بل كان منبراً للمشاركات العالمية مثل المغني العالمي ديمس روسس سنة ١٩٤٦ وكان من ضيوف هذا المعرض أهم فرقة أوركسترا سيمفونية في العالم وهي (أوركسترا فيينا انتر ناشيونال) سنة ١٩٥٦ والتي تقلّدت حينها ميدالية قصر العظم للفنون تقديراً لجهودهم في إحياء أمسيات معرض دمشق الدولي من الرئيس شكري القوتلي.
ولدمشق دور ثقافي تاريخي يعزّز هويتها وحضورها الثقافي كأقدم عاصمة في التاريخ وليس فقط للجغرافيا، وإنما للثقافة والدور التاريخي..
*تاريخ عريق
الباحث التاريخي عماد الأرمشي هو تاريخ عريق ممتلئ بذاكرة المكان والزمان والإنجاز والإبداع على المستوى المحلي والإقليمي، جسده معرض دمشق الدولي منذ انطلاقته عام 1954 وتشكل الانطلاقة الجديدة نحو العالم بعد عهود من الاستبداد، فهو يقدم للزوار تجربة أرقى وأجمل بشكله الجديد ويستذكر الأرمشي لـ”الحرية” لحظات انطلاقة الدورة الأولى للمعرض عام 1954، في عهد الرئيس السوري الأسبق هاشم الأتاسي وكان من المقرر أن يقام المعرض مرة كل خمس سنوات، إلا أن نجاحه الكبير في دورته الأولى، ووصول عدد زواره إلى أكثر من مليون، دفع الحكومة السورية آنذاك لإقامته سنوياً.
ويضيف الأرمشي: احتل معرض دمشق الدولي القديم منذ تأسيسه وحتى عام 2002 موقعاً مهماً في وسط مدينة دمشق، ممتداً من جسر فيكتوريا ومتحف دمشق الوطني حتى ساحة الأمويين بمحاذاة نهر بردى، حيث يتكون من مجموعة من الأجنحة الوطنية والدولية التي تحتضن مشاركات العديد من دول الشرق والغرب محاطة بساحات خضراء ومجسمات ونوافير جميلة، ومن علاماته المميزة آنذاك وجود الأعمدة العالية التي تحمل أعلام الدول المشاركة على طول الشارع الممتد إلى مدخله الرئيسي، إضافة إلى وجود قوس مميز أمام المدخل يشبه قوس قزح ويعود بناؤه إلى عام 1935 ميلادي.
* مظاهر مميزة
ويضيف: “بدأت المظاهر المميزة لمعرض دمشق الدولي القديم منذ مطلع ستينيات القرن العشرين حينها صنع الفنانون السوريون نصباً تذكارياً للسيف الدمشقي في ساحة الأمويين وسط العاصمة دمشق كرمز لقوة المدينة ومنعتها، فكانت لهذا النصب واجهتان واسعتان متقابلتان من البلاستيك الملون حيث تطل الواجهة الغربية على ساحة الأمويين نفسها، بينما تطل الواجهة الشرقية منه على باب معرض دمشق الدولي. وكانت الوفود العربية والأجنبية التي تصل إلى المعرض سبباً في إنشاء نصب السيف الدمشقي الموجود في ساحة الأمويين عام 1960، أي في عهد الوحدة بين سوريا ومصر، وكان الغرض منه آنذاك وضع أعلام الدول المشاركة في المعرض سنوياً، واستُبدل الزجاج الملون بالبلاستيك بعد انتقال المعرض إلى أرض المعارض الجديدة على طريق مطار دمشق الدولي عام 2002.
*حدث فريد
ويستكمل الباحث الأرمشي حديثه بأن إقامة معرض دمشق الدولي للمرة الأولى كان حدثاً فريداً في المنطقة العربية باعتباره أكبر معرض في منطقة الشرق الأوسط، بفعالياته المتنوعة وحضور كبار السياسيين في سوريا لافتتاحه، آنذاك أحيت المطربة اللبنانية فيروز حفلاً على أرض المعرض في انطلاقته الأولى قدمت مجموعة من الموشحات والأغنيات، إلى جانب “الفرقة الشعبية اللبنانية” وواظبت على إطلالتها كل عام، وهو ما جعل اسمها مرتبطاً بالمعرض في أذهان السوريين.
وأود أن أشير إلى أمر مهم أنه في عام 1955، أصدر الرئيس السوري شكري القوتلي، مرسوماً جمهورياً بإنشاء “المديرية العامة لمعرض دمشق الدولي”، لتطوير وإدارة وإقامة المعرض سنوياً، في المنطقة الممتدة من ساحة الأمويين حتى جسر فيكتوريا في قلب العاصمة، وأعتقد أن عودة المعرض بهذا الشكل القوي بعد التحرير يشكّل عتبة كبرى نحو الانفتاح الاقتصادي والثقافي والفكري وبداية لإعادة إعمار سوريا الجديدة.