حين تُسرق المعاني.. عن أخلاقيات القراءة و”السرقة”

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية – لبنى شاكر:

تقول العبارة المُحكمة كما لو أنها نتيجةٌ حتمية أثبتتها التجارب: “القارئ لا يسرق، والسارق لا يقرأ”. ومع إنها تتكرر عشرات المرات يوميّاً في فيسبوك مع صور الكتب الممتدة على الأرصفة ونظيرتها المُتاحة للاستعارة في الحدائق والمقاهي والمكتبات العامة، إلّا أن أحداً لم يذكر مصدراً للعبارة، من هو قائلها وفي أيِّ سياقٍ جاءت، تاليّاً كيف لنا أن نستسلم لها كخُلاصة أو خاتمة أو حصيلة، ولاسيما أنها تجمع بين مفهومين أو فكرتين فيهما من الجدل الكثير(القراءة) و(السرقة).
من قال إنّ القرّاء متشابهون، وأنّ القراءة فعلٌ يعيشه الجميع بنفس الطريقة، وهل يعني هذا أن اللصوص لم يُفكروا يوماً بسرقة مكتبة، وهو ما تنفيه أخبار سرقات الكتب الأثرية والنسخ الأولى من مُؤلفات شهيرة ومفقودة، حتى أن أحدهم سرق قبل أعوام نُسخةً أصليّة من كتابٍ يُوثق لشخصية “سبايدرمان”!، ربما سرقه ليقرأه أو ليبيعه أو بداعي الفضول، لكن السرقة تبقى سرقة، ولا مسمى آخر لها.

قراءة مُشوّهة

“السارق لا يقرأ”؛ هذه الجملة تحمل احتقاراً خفياً للفعلين معاً. فهي لا تقول فقط إن السارق منحط أخلاقياً، بل إنه جاهل أيضاً. وكأن الجهل هو السبب الوحيد للانحراف، وهذا تبسيطٌ ساذج، فالتاريخ السياسي مليء بـ “لصوص” مثقفين، قرؤوا كثيراً ثم استخدموا معرفتهم لسرقة حقوق الآخرين وتزوير التاريخ وتبرير الاستبداد. هل نستطيع القول إن هؤلاء لا يقرؤون؟ بالعكس، هم يقرؤون بعمق، لكن قراءتهم مُشوّهة، موجهة لخدمة نزعاتهم التدميرية. القراءة وحدها لا تخلق إنساناً أخلاقياً، كما أنّ السرقة لا تعني بالضرورة غياب المعرفة.

 التاريخ السياسي مليء بـ “لصوص” مثقفين قرؤوا كثيراً ثم استخدموا معرفتهم لسرقة حقوق الآخرين وتزوير التاريخ وتبرير الاستبداد

توصيفنا هذا لن يبدو مبالغاً به فيما لو استحضرنا أيضاً سرقات أدبيّة طالت روايات وكتباً وقصائد، وامتدت إلى مقالات وبحوث ودراسات ورسائل دكتوراه، وهو ما تفاعلت معه جامعة دمشق منذ أعوام في سابقة أولى في تاريخها، بإعلانها سحب شهادة الدكتوراه من إحدى الطالبات بعد شكوى رسمية قدمها صاحب البحث الأساسي الذي “استُلّت” منه رسالة الدكتوراه. وسواء كانت الكلمة المُستخدمة هنا هي “استلال” أو “سرقة” أو “اختلاس” أو “أخذ” فهي لا شك فعلٌ لا أخلاقي يُقارب عشرات القضايا التي توجه أصحابها إلى المحاكم أو اكتفوا بإثارتها في الأوساط الأدبيّة والإعلاميّة أملاً في إنصافهم والاعتراف بما سُرِق من أفكارهم وكتاباتهم، لكن ما حصل معظم الأحيان هو أن الأمر تحوّل إلى صدٍّ ورد، من دون الوصول إلى الحقيقة.

نخبة معصومة

“القارئ لا يسرق”؛ هذه الثقة المُطلقة التي تمنحها العبارة للقارئ، تجعلنا نتساءل: أي قارئٍ هذا الذي نتحدث عنه؟ هل هو القارئ الذي ترسخت لديه أخلاقياتُ المعرفة من خلال المطالعة، أم إننا نخلق صورةً مثاليةً ورديةً عن “طبقة القراء” كما لو أنهم نُخبةٌ معصومة؟. في واقعنا السوري، حيث تضرب الأزمات بعنف، وتنكمش المساحات العامة والخاصة، يصبح الفعل الثقافي نفسه محكوماً بمعايير البقاء. أليس من الممكن، في ظل ظروف القهر والجوع هذه، أن يتحول القارئ نفسه إلى سارق؟ ليس سرقةً للكتب بالضرورة، بل ربما سرقةً للكهرباء التي يقرأ تحتها، والماء التي ننتظرها طويلاً هذه الأيام، أليست هذه سرقاتٌ من نوعٍ ما؟ لكن العبارة الأصلية تتعامل مع السرقة بمفهومها المادي الضيق فقط.

القراءة وحدها لا تصنع إنساناً أخلاقياً كما أنّ السرقة لا تعني بالضرورة غياب المعرفة

ثمّة سؤال آخر يفرض نفسه: ماذا عن سرقة الفرص؟ في سياقنا الثقافي المحلي، حيث تُحتكر المنصات الإعلامية باسم “الثقافة”، أليست سرقة فرصة النشر من كاتب أو صحفي، وتهميش إبداعه لأنه لا ينتمي لشلةٍ ما، أليست هذه سرقةً لأكثر من فكرة؟ إنها سرقة مستقبل، سرقة صوت، سرقة مسار ثقافي بأكمله. هذه سرقات لا تقلّ بشاعة عن سرقة النصوص، بل قد تكون أقسى، لأنها تُمارس باسم “الاختصاص” و”الجودة” و”المعايير” التي غالباً ما تكون غامضة ومتحيزة.

شعورٌ زائف

في النهاية، العبارة التي نناقشها تشبه تلك الكليشيهات الجاهزة التي نرتاح لها لأنها تريحنا من عناء التفكير في التعقيدات، إنها تمنحنا شعوراً زائفاً بالأمان الأخلاقي. ربما كان السياق الأصلي للعبارة بريئاً، وربما قيلت في لحظة دفاع عن فكرة مكتبة الشارع كفعل ثقافي مطلوب، وربما أراد ناقلو العبارة “القارئ لا يسرق، والسارق لا يقرأ”، القول من باب الثقة بأنه لا داعٍ لحراسة الكتب، لعلّ بعضهم قالها مستخِفاً، وعلى أية حال في العبارة خطأٌ يجب تصحيحه، كذلك هو نقلها خارج سياقها، وتكرارها كمسلَّمة، في وقت تبدو فيه الحاجة ملحة إلى مراجعة كل “المسلمات” التي تتردد في فضاءاتنا.

Leave a Comment
آخر الأخبار