الحرية– أمين سليم الدريوسي:
تدخل العلاقات السورية- التركية مرحلة جديدة عنوانها الأبرز «التعاون الأمني»، هذا التحول لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة تراكمات إقليمية ودولية دفعت الطرفين إلى إعادة النظر في أولوياتهما، فتركيا تسعى إلى تأمين حدودها الجنوبية ومنع أي تهديدات محتملة، فيما تركز سوريا على استعادة سيادتها الكاملة على أراضيها وتعزيز الاستقرار الداخلي، وهذا ما أكده وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال لقائه نظيره السوري أسعد الشيباني أمس إذ قال إن «أمن سوريا واستقرارها يشكلان جزءاً لا يتجزأ من أمن تركيا القومي»، من جانبه، الوزير الشيباني رد قائلاً إن «التنسيق مع أنقرة ضرورة استراتيجية لحماية الحدود ومنع أي محاولات لزعزعة الاستقرار».
هذه التصريحات المتبادلة واللقاءات الأخيرة بين وفود رفيعة المستوى من البلدين، سواء في أنقرة أو عبر قنوات أمنية مباشرة، تعكس إدراكاً متبادلاً بأن التنسيق أصبح ضرورة استراتيجية وليس مجرد خيار تكتيكي مؤقت، وتعكس إدراكاً متزايداً لدى الطرفين بأن المرحلة المقبلة تتطلب تجاوز الخلافات السابقة والانطلاق نحو شراكة أمنية واقعية.
شمال شرق سوريا.. نحو دمج وطني شامل
ولتكن بداية الحديث عن منطقة شمال شرق سوريا إذا تشكل هذه المناطق ملفاً حساساً في أي تفاهم سوري– تركي، فقد أشار باحث في الشؤون الإقليمية ممن تناولوا ملف العلاقات السورية- التركية، خلال حديث لصحيفة عربية إلى أن «التفاهم السوري- التركي حول هذه المنطقة يفتح الباب أمام حلول عملية، ويمنع أي فراغ أمني قد تستغله أطراف خارجية»، فدمشق تسعى إلى إعادة دمج القوى المحلية ضمن مؤسسات الدولة، بما يضمن وحدة القرار العسكري والسياسي، ويعزز السيادة الوطنية، هذا التوجه يلقى دعماً إقليمياً، إذ يُنظر إليه كخطوة أساسية لإنهاء حالة الانفصال الأمني التي أرهقت الدولة السورية لسنوات، من جانب آخر، ترى تركيا أن أي صيغة مستقبلية يجب أن تراعي أمنها القومي، وهو ما يجعل التنسيق مع دمشق أمراً حتمياً.
إن نجاح هذه العملية سيعني بداية مرحلة جديدة من الاستقرار، حيث تتحول القوى المحلية إلى جزء من النسيج الوطني بدلاً من بقائها كياناً منفصلاً، هذه المواقف تؤكد أن الدمج بات خياراً مطروحاً محلياً وإقليمياً، بما يعزز السيادة السورية ويضمن الاستقرار.
الجنوب السوري… أولوية استراتيجية مشتركة
أما الجنوب السوري، ولاسيما مناطق السويداء ودرعا والقنيطرة، فيشكّل هذا الملف ساحة مركزية للتحديات الأمنية والسياسية في المرحلة الراهنة، فقد شهدت هذه المناطق خلال العامين الماضيين اضطرابات محلية ذات طابع اجتماعي واقتصادي، ترافقت مع محاولات خارجية لاستغلالها تحت ذرائع حماية الأقليات أو دعم الحركات الاحتجاجية، غير أن دمشق وأنقرة تدركان أن أي فراغ أمني في الجنوب قد يفتح الباب أمام تدخلات إقليمية غير مرغوبة، سواء من جانب إسرائيل التي تسعى لترسيخ نفوذها قرب الجولان، أو من أطراف أخرى تحاول الاستثمار في هشاشة الوضع المحلي.
هذا التلاقي في الرؤى يعكس قناعة مشتركة لدى الطرفين بأن إغلاق ملف الجنوب ليس مجرد خطوة أمنية، بل هو شرط أساسي لإطلاق مرحلة جديدة من الاستقرار الوطني، فاستعادة السيطرة الكاملة على هذه المناطق ستعزز من تماسك النسيج الاجتماعي المحلي، وتمنع أي محاولات لتفتيت البنية المجتمعية، كما أن إنهاء التوترات في الجنوب سيمهّد الطريق أمام إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي، ويعيد لهذه المناطق دورها الطبيعي كجسر للتواصل بين سوريا وجوارها العربي.
خيارات المرحلة المقبلة… بين الدمج والتعاون العسكري
هذه الأمور تضع أمام دمشق وأنقرة مشهد مستقبلي وخيارات واضحة، وهي إما المضي في دمج القوى المحلية تدريجياً ضمن الجيش السوري، أو اللجوء إلى تعاون أمني مباشر لإنهاء أي تهديدات محتملة.
الخيار الأول يعكس رغبة في الحلول السياسية طويلة الأمد، فيما يبقى الخيار الثاني مطروحاً كإجراء استثنائي إذا فشلت الجهود السلمية، وفي كلتا الحالتين، الهدف المشترك هو ضمان الأمن القومي السوري والتركي معاً، بما يفتح الطريق أمام حلول سياسية شاملة، وهذه المرحلة تتطلب واقعية سياسية وتنسيقاً عالي المستوى، إذ لم يعد هناك مجال لترك الملفات مفتوحة أو السماح باستمرار حالة عدم الاستقرار.
شراكة واقعية.. وأفق إقليمي أوسع
وعلى الرغم من أن العلاقة بين دمشق وأنقرة لا تزال محكومة بتوازن المصالح، إلا أن التقارب الأمني الحالي يعكس شراكة ضرورية لمواجهة التحديات المشتركة، فتركيا تريد تأمين حدودها الجنوبية، وسوريا تسعى لاستعادة سيادتها الكاملة دون الدخول في مواجهات مفتوحة.
هذه التفاهمات قد تشكل مقدمة لتعاون إقليمي أوسع، يعيد رسم ملامح الشرق الأوسط خلال العقد المقبل.
ما يجري اليوم ليس مجرد مصالحة سياسية عابرة، بل هو إعادة رسم لخرائط النفوذ والأمن في شمال وجنوب سوريا، وربما بداية لتفاهمات استراتيجية أوسع تشمل ملفات إقليمية أخرى، بما يضع الأمن والاستقرار في مقدمة الأولويات.