الحرية – لبنى شاكر:
بدأ التشكيلي شفيق اشتي مشواره مع الآثار في السبعينيات، مستنداً إلى الدكتوراه في فلسفة العلوم الفنية من أكاديمية بطرسبورغ الروسية، ومع أن ولاءه توزّع بين عدة اتجاهات في الرسم، إلا أنه ظل ميّالاً إلى العناصر المعمارية بما تخفيه من أحداث وسرديات، تصح أن تكون شواهد صدق على أزمنة مضت وأمكنة مثقلة بتبعات التاريخ، ومن ثم صاغها في مجموعة فنية واسعة تحت مسمى «روح بالميرا»، من ضمنها لوحتان للأعمدة في تدمر، وحوالي 80 عملاً تطغى عليها التعبيرية بأبعادها الفلسفية والتكوينية، كما لو أنها إعادة تمثيل لما شهدته المدينة الأثرية من صراعات وحروب بدأت في الألفية الثانية قبل الميلاد، إلى أن هاجمها تنظيم «داعش» الإرهابي عام 2015.
يعود اشتي إلى التواريخ الدموية لـ “تدمر” مُصوِّراً الأجساد المتلاصقة والأبنية المُهدّمة
بُعد مسرحي للصراع
يعود اشتي إلى تلك التواريخ الدموية، المثبتة والأسطورية، لينتقل بين الأجساد المتلاصقة، الخائفة والمترقبة، التي تبدو مأخوذة بفعل ما، فتتوحد في انحنائها واستجدائها، وأحياناً تأخذ كل منها حركة مختلفة، كأنها التقت فجأة تحت سطوة المعتدي. وفي ذلك كله، يتلاشى الفرد بجسده الواحد، لتختلط الرؤوس والأطراف وتغيب الملامح الواضحة، ربما هي الكارثة حين تقع بكليتها.
ومع التورية المقصودة للفردانية، يتخذ الصراع بُعداً درامياً مسرحياً يتجاوز فكرة التحديد لمرحلة زمنية واضحة. يقول اشتي: «الإنسان هو الملحمة، الحياة مسرح واللوحة أيضاً مسرح». هكذا تغدو «بالميرا» كما يفضل أن يسميها، روحاً أو طيفاً يحضر في كل ما نعيشه، في المأساة والهجرة، في الرقص والهروب، كأن المسرح يتفاعل في لوحة، من دون أن ننسى مسرح تدمر الشاهد على الحياة والموت فيها.
تقاطعات جديدة
في مرحلة لاحقة، أضاف اشتي إلى أعماله تقاطعات تعامدية، أدخل بموجبها الأبنية الأثرية ونظيراتها المتهالكة، التي كانت طويلاً موضع اختبار لعوامل الطبيعة والحروب والصراعات، إلى أجواء وعوالم مختلفة. فبدت جزءاً من تصورات افتراضية وخيالات لا تخلو من إسقاطات، اختار لها توصيف «الواقع»، مبتعداً كعادته عن الإشارات المباشرة إلى الأكثر اتساعاً وإحاطة. كما انصهرت معها تكوينات جسدية لكتل بشرية متحركة، في شطحات لونية عفوية، يقول عنها: «هذه العفوية هي ما أعتمدها في مراحل بناء لوحتي، مستنبطاً الأشياء الجميلة التي تخدم مضمون اللوحة وما وراءه، بما ينسجم مع هويتي وفكري. وفي النتيجة يشعر المتفرج بأشياء فلسفية باطنية من دون أن يتمكن من توصيفها، ربما تكون مسرحاً أو ملحمة أو واقعة ما زالت تضج بالحياة».
يعرض الفنان في لوحاته حيوانات مفترسة وأجزاء مُقتطعة من قناطر حجرية وتماثيل مبتورة الرؤوس
توليفة الأمكنة والبشر
توليفة الأمكنة والبشر في نزاعات لا تتوقف استدعت ألواناً مماثلة للعناصر على تباينها، في الرمادي والبني والأصفر، بحيث لا يرى الواقف قبالة اللوحة فرقاً بين الدفاع والهجوم، الإحجام والإقدام، في صورة كلية عامة. وهذا لا ينفصل برأي اشتي عن حالة التكامل البصري اللوني الذي نرى فيه ذوباناً هائلاً، تندغم فيه المكونات دون أي شذوذ أو نفور. وفي السياق ذاته، ابتعدت الأعمال عن حالة الاستقرار والسكون نحو الحركة وتغيّر حركات الأجساد ومواضعها. وما يُقال عن التشاؤمية في لوحات اشتي لم يمنعه من الحرص على أن تؤدي اللوحة رسالتها الجمالية من ناحية التقنية والخبرة والمهارات المكتسبة وتتابع التجارب. يقول التشكيلي: «إلى اليوم، أشتغل بنفس حركة الأدوات.. الريشة والقلم والفحم. حقيقةً صادقت أدواتي حتى أصبحت لنا روح واحدة. لكن حين يُقال إني متشائم، فلهذا أسباب، كيف أكون سعيداً والآخرون حولي ليسوا بخير؟ من الطبيعي أن يشعر المتلقي بهذا، وربما يراه في تضخيم المعالم والمبالغة بها، ومن ثم تصديره بلا تكلف».
العثور على نوافذ
تتزاحم الألوان بدرجاتها في أعمال الفنان، بعيداً عن البني الممتد في صحراء تدمر، لنرى الأحمر والأسود والأصفر ممزوجة بخطوط منحنية مطواعة تتدفق كأنها تتوالد من تلقاء نفسها. لذا لا نشعر بغرابة حين نلمح حيوانات مفترسة أو أجزاء مقتطعة من قناطر حجرية أو تماثيل مبتورة الرؤوس تتداخل مع تشكيلات أخرى. ورغم ذلك، يقول شفيق اشتي: «لست مأخوذاً بتصوير المأساة دائماً، أحاول العثور على نوافذ، إشراقات ما، يمكن عدّها حلولاً يرتاح لها المتفرج واللوحة. ربما هو الضوء المنبعث من عمق اللوحة أو القادم من إحدى زواياها، جاعلاً من الآلام فيها حكايات لا بد من أن تكون لها نهاية سعيدة يوماً ما».