الحرية – جواد ديوب:
“يقولون إن الانسان يحتاج إلى عشرين ثانية عناق في اليوم كي ينمو ويكون سعيداً، لكنني لا أحتاج في دمشق إلا إلى أن أتمشى في باب توما كي أشعر بعناق المكان، تسعدني كل خطوة فوق تلك الحجارة السوداء يغريني الضياع في الشوارع القديمة الضيقة”…
بهذه الكلمات المعجونة بالحنين والمخبوزة على نار العاطفة تجذبنا الكاتبة السورية كندة شريقي حنا إلى ما يمكن أن نسميه “روايتها” الأولى بعنوان “ثلاثية رسائل” (دار المشرق اللبنانية) فللأمانة النقدية لا يمكن القول إنها رواية كلاسيكية متكاملة الأركان أو إنها تنتمي إلى عالم الحداثة الأدبية من حيث تقنيات السرد أو تعدد أصوات الرواة وأزمنة الأحداث فيها… لكن يمكنني شخصياً تسميتها بـ(Mini narrative) أي سرد مصغّر.
فحكايتها ليست نوستالجيا عن الأماكن في دمشق وياسمينها وشجر المجنونة المتغاوية بألوانها، وليس فيها مقتطفات من سيرتها الذاتية رغم الإيحاء الأولي بذلك حين نستشعر طعمَ منقوشة الزعتر ورائحة الخبز في صباحات طفولتها الهانئة…لأن تلك المقدمة هي بابٌ سحريٌ تأخذنا عبره إلى “الأُحدوثة” التي حصلت معها وجعلتها تشتري طاولة مكتب خشبي موزاييك من دكان “أنتيكا” يمتلكه صديقُ دراسة قديم، ثم بعد شحنه إلى مكان إقامتها في أمريكا تجد فيه نسخاً كربونية من مراسلات بين الدكتور عدنان الشريف والد صديقها الدمشقي و “ياسمين سعيد” إحدى صديقاته المقربات.
الرواية إذاً عن هذه الرسائل الثلاث التي تتهادى بعذوبة أمامنا مشبِعةً فضولنا في كشف أسرار الآخرين ورغبتنا في معرفة تفاصيل حكايات حب عاشها غيرنا حتى لو انتهت بالخيبات أو بالزواج أو بغير المتوقع.
تجعلنا شريقي نعيش قلقَ دكتور التاريخ عدنان الشريف ونستشعرُ صعوبة اتخاذ قراره المصيري بالزواج إما من سوزان زميلته حين كانا يدرسان الماجستير وخلبت له لبّه بجمالها الشآمي وسحر إطلالتها، أو الزواج من الشابة المصرية نرجس بسمرتها وروحها المتدفقة مثل نهر النيل وعقلها المختزن لجينات الفرعونة حتشبسوت.
لذلك يلجأ إلى مراسلة ياسمين صديقة قديمة من قريته، طالباً منها النصيحة، معوِّلاً على عمق صداقتهما؛ هذه المنطقة الآمنة من العلاقات البشرية التي نتكئُ عليها في أصعب أوقاتنا عندما نعجزُ حتى عن فهم دواخلنا ومشاعرنا المتشابكة، فيأتي الصديق/ الصديقة ليرتّب فوضى حواسنا ويعيد هندسةَ ما تخلخلَ فينا من أفكار.
هكذا تذكرنا أو تعيد شريقي إلى أذهاننا معنى الصداقة التي تتقدمُ بعظمتها على فعل الحب بين الذكر والأنثى، حتى لو تحول هذا الشكل العاطفي من الصداقة إلى الحب؛ فالزواج.
لكن كل هذه التفاصيل هي أيضاً حيلتها الأدبية لتخبرنا عن جماليات المُراسَلة وما تختزنه من حميمياتٍ وأسرار وحكايات بات العالمُ يفتقدها مع انتشار شبكات تواصل اجتماعي لا يعرف المرء فيها طعمَ ولونَ ورقِ الرسائل القديمة، ولا تملأ رئتيه ورودٌ ديجتالية مرسلةٌ على شكل إيموجي وملصقاتٍ بلا أريج عطورها ولا شذى غاردينيا تركها العاشق بين طيات الرسالة الورقية وترك معها قلبَه.
بل لنكتشف معها أن خيار الدكتور عدنان الشريف جنحَ نحو الصديقة ياسمين لتكون زوجته وأم أولاده، معللةً ذلك بأن “لا أحد يفهمُ شؤونَ القلب تماماً”، وبما قاله نيتشه: “ليس نقصُ الحب هو ما يُنقص من سعادة الزواج؛ بل هو النقص في الصداقة. الزواج هو حديثٌ طويل. عندما تتزّوج يجب أن تسأل نفسك: هل تؤمن بأنك ستستمتع بالحديث مع هذه المرأة حتى بلوغك العتيّ من العمر؟ كّل شيء آخر في الزواج هو مؤّقت، معظم الوقت الذي يقضيه الزوجان في علاقتهما سيكون مخصصاً للحديث.”
نعم هي روايةٌ مصغّرةٌ أو سردٌ قصير أو سموها ما شئتم لكن فيها نفحة الخيال الأدبي الذي امتلكته كندة شريقي حنّا بامتياز، والذي لولاه لما وصلت إلينا حكاياتُ البشر والشعوب على شكل قصصٍ تُروى.