الحرية- رنا بغدان:
حفلت كتب الفكاهة الأدبية العربية بأخبار الظرفاء والمضحكين والحمقى والمغفلين وتناولت شخصيات فكاهية معروفة في التراث العربي مثل جحا وأبو علقمة وأبو دلامة وأشعب وربيعة البكّاء وعجل بن لجيم وجامع الصيدلاني وأزهر الحمار وابن الجصاص… والتي ارتبط ذكرها بالعمق الثقافي والوجداني والعقلي والروحي للشعب العربي وتراثه.
وتعد الفكاهة ظاهرة فنية حظيت باهتمام الأدباء والنقاد الذين أدركوا أثرها الفاعل في المتلقي، وما تثيره في نفس قارئها من متعة و مرح، فضلاً عن دورها في التهذيب والإصلاح جنباً إلى جنب مع الأدب الجاد, وقد حفل تراثنا العربي بالكثير من المؤلفات النثرية والمصنفات الأدبية الفكاهية بمظاهرها وأغراضها المتعددة كالمزاح والوعظ والدعابة والتهكم والهزل والسخرية والطُرَف والمُلح والحِكَم. وفق خبر أو نادرة أو حكاية فكاهية خرافية أو واقعية أو دينية.. وبأسلوب بسيط مملوء بالإيجاز والمفارقة والمبالغة. فقد ارتبطت الفكاهة بالإنسان ارتباطاً وثيقاً، وأبدى حاجته إليها في شتى المجتمعات والعصور لما تنضوي عليه من قيم ورموز وآثار تسهم في تعزيز الجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية والإرشادية والتقويمية في المجتمع.
ولعل أشهر الشخصيات الفكاهية التي ارتبطت بأذهان الناس شخصية “جحا” حتى أضحى لكل شعب من الشعوب “جحا” الخاص به والذي يتناسب مع طبيعة هذا الشعب وثقافته وتنوّع مشاربه وفئاته وظروفه الاجتماعية. فـ”جحا” في الأدب العربي هو شخصية تراثية حقيقية شهيرة عُرفت بالتغفيل الذكي والذكاء الواضح وأصبحت رمزاً للسخرية والفكاهة والحكمة العميقة في مواجهة القضايا المعقدة, وقد عاشت في العصر الأموي وانتشرت قصصه في الثقافات الإسلامية وتداخلت مع حكايات الآخرين وزادت مع مرور الوقت لتصبح شخصية شعبية تمثل الفكاهة والحكمة العميقة والتعبير عن آراء المجتمع, وصُنفت قصصه المنتشرة ضمن الأدب الشعبي وعُرفت بـ”النوادر الجحوية” ، وظهرت شخصيته في نصوص أدبية مختلفة مثل كتب ابن الجوزي والأصفهاني وابن النديم والجاحظ وابن قتيبة وابن عبد ربه وغيرهم.. وأصبح الناس ينسبون إليه كل دعابة وطرفة، ما أدى إلى تداخل نوادره مع نوادر الآخرين وصعوبة تمييز الأصل من التقليد.
ومهما يكن فإن “جحا” الذكي البارع الذي يدعي الحماقة وحماره لم تتغيّر شخصيته فهو “أبو الغصن دُجين الفزاري” وهو رجل فقير ولد في العقد السادس من القرن الهجري وعاش في الكوفة, كان يعيش أحداث عصره بطريقة مختلفة ويتماشى مع تلك الأحداث شبه الحقيقية, وكان يتصرف بذكاء كوميدي ساخر فانتشرت قصصه ومواقفه التي كان يتعامل معها في حياته اليومية، وكانت تنتقل قصصه من شخص إلى آخر، ما نتج عنه تأليف الكثير من الأحداث الخيالية حوله وبطرق مختلفة, وأقدَم قصصه ونوادره تعود إلى القرن الأول الهجري أي القرن السابع الميلادي, وهكذا ما لبث اسمه أن تردد في أدبيات القرنين الثاني والثالث للهجرة، مقروناً ببعض النوادر، كما ذكر الجاحظ، ولكن ما نكاد نصل إلى القرن الرابع الهجري حتى تكون نوادره المتواترة شفاهياً قد عرفت طريقها إلى التدوين في أسواق الوراقين باسم “كتاب جحا” الذي كان من الكتب المرغوب فيها على قول ابن النديم في الفهرست, ولا تزال تلك النوادر حيّة في الفكر والخيال الشعبي والوجدان الجمعي العربي وعبرت حدود الزمان والمكان, ومن أشهرها:
مسمار جحا, الرأس, جحا وابنه وحماره, مَنْ يَعلمُ يُعْلِمُ مَنْ لا يَعْلم, نواة البلح, حمّام فوق المئذنة, الحصان والثور, الحمار المخللاتي, سباق مع الصوت, ضاع الحمار بمفرده, سجود, الحمار المتعلم, اللباس الطائر, من راقب الناس, العمامة القارئة, العقاب قبل الذنب..
ونورد أيضاً : هاتها تسعة ولا تزعل:
رأى جحا في منامه أن شخصاً أعطاه تسعة دراهم بدلاً من عشرة كان يطلبها منه فاختلفا، ولما احتدم بينهما الجدال انتبه من نومه مذعوراً، فلم يرَ في يده شيئاً، فتكدر ولامَ نفسه على طمعها، ولكنه عاد فاستلقى في الفراش وأنزل نفسه تحت اللحاف ومدَّ يده إلى خصمه الموهوم قائلاً: هاتها تسعة ولا تزعل!.
“جحا”.. أذكى العقلاء وأحمق الظرفاء

Leave a Comment
Leave a Comment