“جوكر” المؤسسة.. منقذ قد يُغرق السفينة في ظل غياب المعرفة المؤسسية الحيوية

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية- إلهام عثمان:

في كواليس كلّ مؤسسة سواء كانت عامة أو خاصة، وخلف الأبواب المغلقة والمناصب الرسمية، غالباً ما يتحرك “بطل” صامت يُعرف بـ “الجوكر”، هو ليس مجرد موظف، بل شريان حيوي تتكئ عليه الإدارة لسد الثغرات وإطفاء الحرائق عند غياب أحد الموظفين، لكن خلف صورته كمنقذ، تكمن حقيقة أكثر تعقيداً وخطورة، وهي ظاهرة إدارية قد تقود المؤسسة بأكملها نحو حافة الهاوية, فهل نحن أمام موظف خارق أم عرض لخلل إداري عميق؟

كفاءة ظاهرية

وهنا أوضحت الخبيرة التنموية رقية أبو الدهب التي بينت من خلال حوار خاص مع “الحرية”، أنه كأدوار حيوية نجدها هنا وهناك، وابتداء من المشرف الذي يؤدي دور المدير إلى العامل البسيط الذي قد يسد فراغ رئيس العمال، تتعدد الأمثلة لشخصيات أصبحت أعمدة غير رسمية, تقوم عليها أجزاء كبيرة من منظومة العمل.
هذا الموظف، الذي يتمتع بمرونة وقدرة مذهلة على التعلم السريع، هو ذاته الملاذ الآمن الذي يلجأ إليه الرؤساء عند كل أزمة، لكن في الوقت ذاته هذه الكفاءة الظاهرية تخفي تحتها واقعًا إداريًا هشًا يُعرف علميًا بـ”الاعتماد على الشخص الرئيسي”.

هذه الظاهرة تنمو وتترعرع في البيئات الإدارية التي تفتقر إلى توزيع واضح للمهام

ووفق رأي أبو الدهب هذه الظاهرة تنمو وتترعرع في البيئات الإدارية التي تفتقر إلى توزيع واضح للمهام، حيث يصبح رحيل هذا الشخص، سواء بالاستقالة أو المرض، كفيلاً بإحداث شلل في العمليات وفقدان كارثي للمعرفة المؤسسية الحيوية.

مخاطر دفينة

وعن سؤالنا، هل يستطيع الجوكر القيام بمهام متعددة في آن واحد؟ تجيب أبو الدهب ب: نعم، يستطيع “الجوكر” القيام بمهام متعددة وبكفاءة ملحوظة أيضاً، موفراً للمؤسسة مرونة عالية وتكاليف أقل في المدى القصير إلّا أن لذلك الحضور والمزايا جوانب مظلمة على المدى الطويل على الجوكر ذاته وعلى المحيط.

الوجه المظلم

أكدت أبو الدهب أن الوجه المظلم له نتائج عدة أولها الاحتراق الوظيفي: أي الضغط النفسي والجسدي الهائل الناتج عن تعدد المهام، في الوقت ذاته يؤدي حتماً إلى الإرهاق وتراجع الأداء
– وتآكل الجودة: إذ إن التركيز على مجموعة مهام يزيد من احتمالية وقوع الأخطاء وإغفال التفاصيل الدقيقة
– ومن سلبياته أيضاً خنق الابتكار: فالاعتماد على بطل واحد يمنع تطور مهارات بقية الموظفين ويخلق بيئة عمل غير متوازنة تفتقر إلى الإبداع الجماعي.
حيث أشارت أبو الدهب إلى أن المسؤولية هنا لا تقع على “الجوكر” نفسه، بل على الإدارة التي قد تسمح بنشوء هذه الظاهرة، لافته إلى أن المدير الذي يفتقر للثقة، يميل إلى الاختباء خلف “الجوكر” هروباً من مسؤولياته.

الحل لا يكمن في التخلص من الموظفين الأكفاء بل في بناء نظام قوي لا يرتكز على فرد واحد

وصفة التحصين المؤسسي

وهنا لابدّ من طرح سؤال بالغ الأهمية وهو كيف يمكن تحصين مؤسساتنا ضد هذا الخطر الكامن؟
لسترسل أبو الدهب وتضيف: إن الحل لا يكمن في التخلص من الموظفين الأكفاء بل في بناء نظام قوي لا يرتكز على فرد واحد، مؤكدة أن القائد الحقيقي لا يبحث عن منقذ، بل يصنع فريقًا كاملاً من المنقذين, وهذا طبعاً يتم بالاستناد لثلاث ركائز أساسية.

الركيزة الأولى توثيق المعرفة:

حيث أوضحت الخبيرة أنّ المعرفة غير المكتوبة هي معرفة مؤقتة، محكوم عليها بالضياع، ومن أجل تحويل الخبرات الفردية إلى أصول مؤسسية دائمة، يجب بناء قاعدة معرفة مركزية باستخدام أدوات معينة، وتوثيق الإجراءات المعقدة عبر تسجيلات الفيديو التعليمية، ووضع إجراءات تشغيل قياسية واضحة لكل مهمة حيوية.
كمثال مصنع نسيج صغير كان يعتمد كليًا على “المعلم حسن” لتشغيل آلة الصباغة الرئيسية, وعندما غاب العامل لوعكة صحية، توقف الإنتاج وتكبد المصنع خسائر فادحة, ما جعل المدير ينتبه لذلك الفراغ و قرر وضع خطة فورية وهي جعل “المعلم حسن” يقوم بتدريب عاملين، وتوثيق كل خطوات الصيانة في دليل مصور، وبذلك أصبح المصنع محصّناً ضد أي غياب مفاجئ بفضل وجود ثلاثة خبراء بدلاً من واحد.

الركيزة الثانية: التدريب المتقاطع

وهنا أشارت أبو الدهب إلى أن التدريب المتقاطع يكون باستنساخ المهارات،لا الأشخاص، والهدف، هو ضمان وجود بديل جاهز دائماً، حيث تبدأ الخطة بتحديد الأدوار الأكثر حساسية، ثم السماح للموظفين بـ”تظليل زملائهم الخبراء، وممارسة المهام تدريجيًا تحت إشرافهم, لافته إلى أنّ هذا الأسلوب لا ينقل المهارة فحسب، بل يعزز ثقافة التعاون.

وكمثال آخر: شركة ناشئة كانت تعاني من رحيل المبرمجين الموهوبين بسبب مدير فني “جوكر” يحتكر المهام الصعبة لذاته, وعندما تم استبداله بقائدة جديدة طبقت نظام الفريق الواحد ووزعت مسؤوليات حقيقية على الفريق، هنا لم تعد هي “البطل الأوحد”، بل أصبحت “مُخرجة” لفريق من الأبطال، لتكون النتيجة، زيادة وتيرة الابتكار بشكل ملحوظ.

الركيزة الثالثة: القيادة المُمكّنة

هنا يكمن جوهر التحول.. وفق ما أكدته أبو الدهب، مبينه أنَّ المدير يدير العمليات الإدارية و يعطي الأوامر ويعتمد على سلطته، بينما القائد يوجه ويسأل ويعتمد على تأثيره، والأهم، أن المدير يخلق أتباعاً يعتمد عليهم، لكن القائد يصنع قادة يستثمر المهارات في تطوير كل فرد في فريقه.

قيادة مركب النجاح

وختمت أبو الدهب: إنّ بناء مؤسسة مرنة وقوية لا يتعلق بالعثور على “الجوكر” الخارق، بل بخلق بيئة وثقافة عمل صحية لا تسمح بوجوده من الأساس، فالمؤسسة التي ترتكز على فريق متكامل من الموظفين المتمكنين، هي وحدها القادرة على مواجهة العواصف والوصول إلى قمة النجاح.

Leave a Comment
آخر الأخبار