حين ضاع “الراوي” من برامج الأطفال تحت ركام الريلز وألعاب الديجيتال!

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية- جواد ديوب:
لم نكن، ونحن في أزمنة الطفولة السعيدة، قد عرفنا بعد ما هو الكومبيوتر أو «الحاسوب» لكيلا يعتب علينا محبّو اللغة العربية، ولم نكن قد دخلنا بعد في «الشابكة» العنكبوتية أو الأخطبوطية أو «أمْ أربعة وأربعين» متاهةً ودهليزاً، ورغم «وحولة» طريق المدرسة في الشتاء، وأشواك «الدرّيس» التي تعْلَق بأرجلنا وثيابنا في الصيف وتتركنا نتألّم الليلَ كلّه… كنا سعداء بما نعيشه من قناعة مطلقة بأن ألعابَ الطفولة لا تشيخ ولا تيبس مادام هناك من يروي لنا الحكايات ويقلّد لنا أصوات الحيوانات، ويسهر على أحلام نومنا، كما لو أننا جزءٌ منها، وستغدو حقيقةً مع خيوط الشمس الأولى.
طفولةٌ نمتْ ودرّبتْ ذائقتها وأشبعتْ نظرها ولطّفت من عشوائيتها وشيطناتها وهي تشاهد برامج كرتون تلفزيونية منسوجة من نصوصٍ وكتب عالمية اشتغلها أدباء عالميون عظماء بإخلاصٍ وحرصٍ شديدين لمعنى أن تكون طفلاً حتى وأنت في السبعين، أعمال مثل: البؤساء لـفيكتور هيجو، أوليفر تويست لـتشارلز ديكنز، جزيرة الكنز لـستفنسون، هايدي، وعدنان ولينا… وكلّها مصحوبة بموسيقا وأغانٍ جعلت عقولنا تُزهر، وأرواحنا تحتضن فرحاً يُنزل دمعة كلمّا أعدنا ترنيمها في بالنا.
ومَنْ منّا لم تحكِ له جدته، أو روى له جدّه، أو حكى هو لأولاده حكاياتٍ يسترجعها من خزّان تراثي عالمي لا ينضب؟
“كان يا ما كان..” جملة سحرية بمجرد أن يبدأ بها الراوي كلامَه، تنفتح في مخيّلاتنا بلادٌ عجيبة، وأحداثٌ غرائبية، وشخصياتٌ لا تنسى مثل السندباد والتاجر البغدادي من “ألف ليلة وليلة”، أو الغابة التي تتكلم أشجارُها في ملحمة “سيف بن ذي يزن” اليماني، أو «السنافر» التي ابتكرها الرسام البلجيكي بيير كوليفورد، ومثل «جيم» و«سيلفر» والقراصنة الباحثين عن الذهب المدفون في «جزيرة الكنز» للأسكتلندي روبرت ستيفنسون، وكذلك «ميدوزا» الأسطورية التي انقلبَ شعرُها إلى أفاعٍ تحوِّلُ الناظرَ إلى حجر، وحكاية «الحوت الأبيض» التي نسبح معه في محيطات عميقة لنزورَ حضارات عتيقة.

ضياع شخصية الراوي!

اليوم حين أشاهد بعض برامج الأطفال على الفضائيات المتخصصة، أشعر بحزن شديد على ضياع «شخصية الراوي» فيها، واندثار فكرة «الحكاية» منها، وأتذكر بحنين جارف برامج الأطفال المميزة التي عرضها لنا التلفزيون السوري، كبرنامج «كان يا ما كان» من تأليف داوود شيخاني، مع الشارة الموسيقية الرائعة: «هذا أوان الحكاية فلنستمع للكلام، ففي الحكاية غاية ومتعة وانسجام» من تأليف الراحل فاهيه تمزجيان.. كذلك برنامج «حكايات عالمية» وشارته التي لا تنسى: «في قصص الشعوب، طرائفٌ لا تنتهي، وعالمٌ حلوٌ بهي، يسكن في القلوب» من تلحين الموسيقي الراحل حسين نازك وغناء الفنانة أصالة نصري.

لزمانٍ غير زماننا!

أعلم جيداً أن «أطفالنا خُلقوا لزمانٍ غير زماننا»، وأن ما يتعرضون له الآن يفوق قدرة الجبال على تحمّله، لكنني أفتقد فعلاً ذاك التواصل الحميميّ الذي عشناه، والودّ الحنون في العلاقة بين الأجيال، تلك الألفة التي رسّختها برامج الأطفال التي ذكرتها.
ولست طبعاً مع مَنْ يمجّدون الماضي ويلعنون الحاضر، فلكلِّ زمان عيوبُه ومحاسنُه، لكن حين نصطدم اليوم بألعاب الأطفال الكومبيوترية وآلاف مقاطع “الريلز” الرديئة المكتسحة لعقولهم وأوقاتهم وأرواحهم، وحين ألحظ كيف يتحولون أمام أعين أهلهم إلى أشباح طفولةٍ غير بريئة وقنابل موقوتة مشحونة بالعنف والرعونة في التعامل مع أهلهم ومعلّميهم ومعلماتهم في المدارس…أتذكر حال الطفل في الحكاية التي تقول:
كان يا ما كان، في هذا العصر وهذا الأوان، طفل يسأل جدّه بامتعاض وسخرية: جدّي كيف كنتم تعيشون حياتكم من دون فيس بوك وتويتر وواتس أب وتك توك؟! فيرد عليه الجدّ: يا ولدي تماماً مثلما تعيشون حياتكم اليوم من دون عقل ولا قِيم!.

Leave a Comment
آخر الأخبار