الحرية – إلهام عثمان:
مع كل شتاء، وبينما تترقب الأجيال الجديدة تطبيقات الطقس الرقمية لمعرفة أحوال الأيام القادمة، لا تزال الذاكرة الشعبية في سوريا وبلاد الشام تحتفظ بتقويمها الخاص، تقويم لا يعتمد على الأقمار الصناعية، بل على حكايات الأجداد التي صاغتها تجاربهم العميقة مع الطبيعة، «سعد ذبح» و«سعد الخبايا»، مصطلحان يترددان في الأحاديث اليومية مع دخول شهري شباط وآذار، وهما ليسا مجرد أسماء، بل فصول من حكاية الشتاء الطويلة التي تروي قصة الصمود والأمل.
مقدمة الشتاء
تسبق فترة «السعودات» ما يُعرف بـ «مربعانية الشتاء»، كما روى خبير التراث الدمشقي مروان شحرور في حديثه مع صحيفة «الحرية»، وهي فترة تمتد لأربعين يوماً تبدأ فلكياً في 22 كانون الأول وتستمر حتى نهاية كانون الثاني، وتُعتبر حسب الموروث الشعبي ذروة البرد القارس، وتتميز بأمطارها الغزيرة التي تشكل ما يقارب 30 % من الموسم المطري السنوي، ومن هنا جاء المثل الشعبي: «يا رب نجّنا من نزلة المربعانية»، كدعاء للحماية من أمراض الشتاء الشديدة.
برد قارس
وأوضح شحرور أن «السعودات» تبدأ رحلتها مع «سعد ذبح»، الذي يحل في الأول من شباط، ويروي الحكاية الشعبية التي تدور أحداثها حول شاب اسمه «سعد» تجاهل نصيحة أبيه بأن البرد لم ينتهِ بعد، فخرج في رحلة دون أن يحمل ما يدفئه، لكن الطقس غدر به، فاضطر «سعد» إلى ذبح ناقته ليحتمي بأحشائها من الصقيع.
ومن هنا جاءت التسمية التي تصف أشد أيام البرد، ولا يزال المثل الشعبي يصف هذه الفترة بالقول: «بسعد ذابح ما بيضل كلب نابح»، في إشارة إلى البرد الذي يجبر كل كائن حي على البحث عن ملجأ.
بشائر الدفء
بعد قسوة «سعد ذبح» ومرور «سعد بلع» و«سعد السعود»، تصل الحكاية إلى فصلها الأخير والأكثر تفاؤلاً «سعد الخبايا»، كما يقول شحرور، تبدأ هذه الفترة في منتصف شهر آذار تقريباً، وتمثل إعلاناً صريحاً بقدوم الربيع، وسُميت بهذا الاسم أيضاً لأن الأرض لم تعد تخبئ أسرارها، فالحيوانات التي كانت في سبات شتوي، كالأفاعي والحشرات، تبدأ بالخروج من «خباياها» معلنةً عودة الدفء والحياة، لذلك يتردد المثل الشعبي المبهج: «بسعد الخبايا بتطلع الحيايا وبتتفتل الصبايا»، ليرسم صورة حية عن الطبيعة التي تستيقظ والبشر الذين يستمتعون بأولى نسمات الربيع الدافئة.
تراث حي
وختم شحرور بالقول: إن حكاية «سعد» بفصولها الأربعة ليست مجرد قصة مسلية تُروى في ليالي الشتاء، بل هي تقويم مناخي وزراعي متكامل، ومرآة تعكس كيف بنى الأجداد علاقتهم مع الأرض والطقس، وهي جزء حي من هويتنا الثقافية، تذكرنا بأن التراث ليس مجرد حكايات من الماضي، بل حكمة متوارثة لا تزال قادرة على تفسير الحاضر، ومن واجبنا اليوم الحفاظ على هذا الإرث الشفهي الغني ونقله للأجيال القادمة، لتبقى حكايات «السعودات» دليلاً على عمق ارتباط الإنسان بأرضه.