الحرية – إلهام عثمان:
في خضم الأزمات المتراكمة التي يعيشها القطاع الزراعي تتكشف فصول أزمة اقتصادية وزراعية مركبة ليست بالجديدة، فبينما يصارع المزارع لتأمين متطلبات الإنتاج الباهظة، يواجه ضربتين قاسيتين تتجاوزان التكاليف ما بين تقلبات المناخ العنيفة ووباء المبيدات الحشرية المغشوشة.
هذه العوامل، وفقاً لشهادات المزارعين، ومنهم الفلاح (ي، ز) من بيت جن، والذي بيّن أن العوامل المناخية وعدم جدوى المبيدات الحشرية لقتل الآفات الزراعية يعد السبب الأول والحقيقي وراء خسارة المحصول الزراعي في سوريا لتجعل من الاستثمارات الضخمة في الطاقة والري مجرد محاولات يائسة للبقاء.
الضربة القاضية
المهندس الزراعي محمد عبودي كشف من خلال حوار مع “الحرية”، أن التحدي الأكبر الذي يواجه المزارع اليوم ليس فقط ارتفاع تكاليف التشغيل، بل فقدان المحصول بالكامل بسبب عوامل خارجة عن السيطرة ما يحول الاستثمار إلى خسارة صافية.
أولها غش المبيدات الحشرية والأسمدة، حيث أفاد (ي.ز) أنه بالرغم من رشه للأرض لأكثر من 7 مرات ومن ماركات مختلفة للمبيدات، إلا أن الآفات ( الدودة) لم تمت، مرجعاً ذلك على الأغلب إلى أن المبيدات الحشرية مغشوشة ومقلدة بالرغم من غلاء أسعارها ، وهي بمثابة “الرصاصة القاتلة” التي تنهي الموسم الزراعي قبل أوانه.
تكاليف
وهنا يبين عبودي أن المزارع الذي يدفع مبالغ طائلة لشراء مواد حماية المحصول يكتشف متأخراً أن هذه المواد إما غير فعالة أو ذات تركيز منخفض، ما يؤدي إلى انتشار الآفات والأمراض بشكل كارثي، هذا الغش لا يقتصر تأثيره على خسارة المحصول فحسب، بل يضاعف التكاليف التشغيلية، حيث يضطر المزارع إلى تكرار الرش مرات أخرى، غالباً ما تكون باهظة الثمن، في محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
أما فيما يتعلق بالعوامل الجوية، فيوضح عبودي أن التقلبات تبتلع الملايين التي يهدرها الفلاح لإنقاذ المحصول الزراعي، وتأتي التغيرات المناخية لتزيد الطين بلة، حيث أصبحت الظواهر الجوية المتطرفة، من موجات صقيع مفاجئة إلى فترات جفاف طويلة أو أمطار غزيرة غير موسمية، هي المهدد الأول للمحاصيل.
مشدداً على أن هذه العوامل لا ترحم، وتستطيع في ليلة واحدة أن تقضي على جهد أشهر واستثمارات بمئات الملايين من الليرات، لتجعل من أي حسابات اقتصادية سابقة مجرد حبر على ورق.
تكاليف التشغيل
كما أشار عبودي إلى أن الأساس الذي يجعل الخسارة كارثة بالنسبة للفلاح هي الناتجة عن المناخ والغش، لتكون أبعاداً كارثية بسبب الأساس المالي الهش الذي يعمل عليه المزارع، والمتمثل في التكاليف التشغيلية المرتفعة التي تسبق حتى بدء الإنتاج.
لافتاً إلى أن هذه التكاليف التشغيلية المرتفعة تسبق حتى بدء الإنتاج الفعلي، حيث يُعد ثمن طن البذار (البطاطا) وحده 1600 دولار أمريكي، وهو سعر عالمي يُدفع بجيوب محلية.
يُضاف إلى ذلك تكلفة إيجار تنقيب البطاطا للدونم الواحد 200 ألف ليرة، وإيجار العامل الواحد باليوم 40 ألف ليرة وغيرها من تكاليف أخرى لتصل إلى 45 مليون ليرة سورية لـ 20 دونماً، ما يضع المزارع أمام تحدٍ مالي ضخم قبل أن يزرع البذرة الأولى.
كما تفرض لوجستيات تأمين المياه تكاليف باهظة، حيث قد تصل تكلفة المتر الواحد من خراطيم سحب المياه إلى 3 ملايين ليرة سورية، وخاصة في الحالات التي يضطر فيها المزارع لسحب المياه لمسافات تصل إلى 7 كيلومترات، حسب ما بينه المزارع أبو حسين، هذه الأرقام تؤكد أن المزارع يبدأ موسمه بعبء مالي هائل، ما يعني أن أي خسارة في المحصول، مهما كانت جزئية، تتحول فوراً إلى دين أو إفلاس.
من جهته بيّن العم أبو حمزة فلاح أيضاً من بيت جن، أن عمولة السوق (الكومسيون) تتراوح بين 7% و 9% من سعر المنتج، وهي نسبة تُقتطع مباشرة من عائد المزارع، تُضاف إليها أجور النقل الباهظة التي تتراوح بين 600 ألف إلى 1.3 مليون ليرة سورية للنقلة الواحدة حسب المسافة، بالإضافة إلى أجور العمال اليومية (40 ألف ليرة سورية للعامل) الذي يقوم بالتفريغ، لافتاً إلى أن التجار هم المستفيد الأكبر حقاً.
طوق النجاة الشمسي
وهنا كشف عبودي أن ألواح الطاقة الشمسية تعد استثماراً للبقاء لا للربح في محاولة يائسة لتقليل الاعتماد على المحروقات المكلفة، حيث يلجأ المزارعون إلى الاستثمار في الطاقة الشمسية، وهو استثمار إجباري يهدف إلى ضمان استمرارية الري وليس بالضرورة تحقيق الربح.
تكاليف موجعة
كما بيّن عبودي أن التكلفة الأولية لإنشاء بئر ارتوازية وتجهيزها بنظام طاقة شمسية قد تجاوزت حاجز الـ 250 مليون ليرة سورية، هذا المبلغ الضخم، الذي يتوزع بين حفر البئر وتجهيزه (100 إلى 150 مليون ليرة) ونظام الطاقة الشمسية وخراطيم ومعدات ضرورية أخرى(حوالي 100 مليون ليرة)، يمثل استثماراً حيوياً.
الوفورات
وهنا أضاف عبودي أنه بالرغم من التكلفة الكبيرة للطاقة البديلة إلا أنه يوفر بين 50 إلى 70 مليون ليرة سورية سنوياً كانت تُنفق على المازوت، وبالرغم من أن هذه الوفورات تسمح للمزارع باسترداد التكلفة الأولية خلال عامين تقريباً، إلا أنها لا تستطيع تعويض الخسارة الكلية للمحصول الناتجة عن غش المبيدات أو العوامل الجوية.
ضريبة الوصول
وذكر عبودي أن عمولة السوق تنهي ما تبقى حتى في حال نجا المحصول من المناخ والغش إذ يواجه المزارع العقبة الأخيرة المتمثلة في لوجستيات النقل وعمولات السوق التي تلتهم هامش الربح الضئيل.
وختم عبودي: إن التحول نحو الطاقة الشمسية هو خطوة استراتيجية ممتازة لتقليل التكاليف التشغيلية، لكنها لا تعالج الأسباب الجذرية لخسارة المزارع، فالخسارة الحقيقية تنبع من غياب الرقابة على مدخلات الإنتاج المبيدات المغشوشة وعدم فعاليتها، ومن عدم وجود آليات تعويض أو تأمين فعالة وأن استمرارية القطاع الزراعي يتطلب تدخلاً عاجلاً لضبط سوق المبيدات وتوفير شبكة أمان للمزارع في مواجهة التحديات المناخية، وإلا فإن الاستثمار في الزراعة سيتحول إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر لا يقوى عليها إلا القليلون.