الحرية – أمين سليم الدريوسي:
في عالم تتشابك فيه المصالح وتتصارع فيه الأولويات، تأتي الزيارة الرسمية للرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن على رأس وفد وزاري رفيع، حاملةً في طياتها أكثر من مجرد استعراض بروتوكول دبلوماسي اعتيادي أو مناسبة لإطلاق التصريحات المتفائلة. إنها في جوهرها لحظات حاسمة تتقاطع فيها الإرادات السياسية، وتُختبر فيها مصداقية التحالفات، وتُصنع فيها توجهات مستقبلية قد تستمر لسنوات قادمة. الزيارة تضع العلاقة الثنائية على طاولة التشريح، في اختبارٍ للقدرة على تحويل الخطاب الدبلوماسي إلى إنجازات ملموسة للشعبين، وفي وقتٍ يعجّ العالم بتحديات وجودية ومعضلات اقتصادية طاحنة.
من الاقتصاد إلى الاستراتيجية.. تفصيل أجندة الزيارة
في العمق، تحمل هذه الزيارة أجندة مزدوجة، واحدة اقتصادية طموحة، وأخرى جيوسياسية بالغة التعقيد.
على الجانب الاقتصادي، لم يعد الحوار مقتصراً على حجم المساعدات أو القروض، بل تجاوزه إلى سؤال أكثر عمقاً هو: كيف يمكن تحويل العلاقة إلى شراكة إنتاجية حقيقية؟
العقلية الاقتصادية الجديدة تتطلب الانتقال من منطق «المتلقي» إلى منطق «الشريك» هذا يعني أن المحادثات في غرف وزارة التجارة الأمريكية ومع كبار المستثمرين في «وول ستريت» وفي «وادي السليكون» يجب أن تتركز على مشاريع نقل التكنولوجيا، وليس مجرد جلبها. على طاولة المفاوضات يجب أن يكون هناك نقاش حول إنشاء مراكز أبحاث مشتركة في مجالات الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي والرقمنة، ودعم رواد الأعمال المحليين للوصول إلى الأسواق العالمية، وفتح المجال أمام الصادرات غير التقليدية لتجد طريقها إلى الأسواق الأمريكية، ما ينعش الاقتصاد الوطني ويخلق فرص عمل للشباب.
أما البعد الجيوسياسي، فهو الأكثر إلحاحاً وخطورة، إن الرئيس الشرع لا يزور واشنطن بمعزل عن الخريطة السياسية الملتهبة للمنطقة، القادة الأمريكيون سيكونون متلهفين لسماع الرؤية من العاصمة واشنطن حول كيفية إدارة ملفات الأمن الإقليمي، من أمن الممرات المائية إلى مواجهة التهديدات الأمنية غير التقليدية، مثل الجرائم الإلكترونية والجماعات المسلحة. ولكن، الأهم من ذلك، هو أن تكون هذه الزيارة منصّة لتوضيح الرؤية الإستراتيجية للدولة بشكلٍ مستقل وواضح، وليس مجرد رد فعل على أجندات الآخرين، إنها فرصة ذهبية لتقديم قراءة واقعية لتوازنات القوى في المنطقة وطرح مبادرات سلامٍ ملموسة، تصب في تحقيق الاستقرار كشرط أساسي للازدهار الاقتصادي للجميع. النجاح هنا يُقاس بالقدرة على إقناع صناع القرار في واشنطن بأن الاستقرار والازدهار في المنطقة هو مصلحة أمريكية عليا، وليس مجرد مطلب محلي.
الدبلوماسية الثقافية.. والاستثمار طويل الأمد في الإنسان
غالباً ما تُهمش الدبلوماسية الثقافية والتعليمية في خضمّ الحديث عن السياسة والاقتصاد، لكنها في الحقيقة تمثل العمود الفقري لأي علاقة دولية مستدامة. لا تكفي الاتفاقيات بين الحكومات إذا لم تُدعم بجسور من التفاهم المتبادل بين الشعوب، هنا، يجب أن تذهب الزيارة إلى ما هو أبعد من المنح الدراسية الرمزية إلى تأسيس شراكات أكاديمية مؤسسية بين الجامعات والمراكز البحثية الرائدة. إن برامج التبادل الطلابي والأكاديمي والبحوث المشتركة في مجالات التاريخ والآداب والعلوم الإنسانية هي التي تبني جيلاً جديداً من القادة والمفكرين الذين يفهمون تعقيدات كلا المجتمعين ويساهمون في تقريب المسافات.
كما أن دعم تعليم اللغة العربية في الولايات المتحدة واللغة الإنكليزية محلياً، ليس هدفاً تعليمياً فحسب، بل هو استثمار في كسر الحواجز النفسية والثقافية. عندما يستطيع شاب أمريكي أن يفهم ثقافة المنطقة بلغتها، وشاب محلي أن يطلع على أفكار وإبداعات المجتمع الأمريكي بلغته الأصلية، فإن ذلك يخلق أرضيةً للاحترام المتبادل ويحصن العلاقة من تأثير الخطاب السياسي المتقلب والصور النمطية المغلوطة التي تروجها بعض وسائل الإعلام.
التحديات والمخاطر.. إدارة التوقعات بشكل واقعي
لا يمكن تحليل هذه الزيارة من دون تسليط الضوء على التحديات الجمّة التي تحيط بها، وأولها التعقيد البيروقراطي الهائل في النظام السياسي الأمريكي، حيث تتداخل مصالح الإدارات المختلفة وتأثير جماعات الضغط وأجندات الكونغرس، ما قد يعيق تحويل بعض الاتفاقيات إلى واقع ملموس حتى مع وجود النية الحسنة من البيت الأبيض.
ثانياً، هناك خطر «الخطاب العام والمحادثات الخاصة» فما يُعلن في البيان الختامي المشترك قد يختلف جذرياً عن ما تمت مناقشته خلف الأبواب المغلقة، والمطلوب من الوفد هو تحقيق توازن دقيق بين إظهار النجاح للجماهير المحلية وبين إدارة التوقعات بشكل واقعي وعدم تقديم وعود قد تصطدم بجدار الواقع السياسي لاحقاً.
أخيراً، هناك تحدي التوازن الإقليمي والدولي، فالعلاقة مع واشنطن لا تتم في فراغ، وإنما ستُقرأ من قبل حلفاء وخصوم إقليميين، لذلك، يجب أن تُدار الزيارة ببراعة دبلوماسية عالية تضمن تعزيز المصالح مع واشنطن دون إثارة مخاوف غير ضرورية أو الدخول في استقطابات إقليمية قد تكون مكلفة.
لحظة الحقيقة للدبلوماسية الشاملة
إن زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن هي أكثر من مجرد نقطة في سجل العلاقات الثنائية، بل اختبارٌ لإرادة الطرفين على الانتقال من مرحلة الخطابات العامة إلى مرحلة الفعل الاستراتيجي، هي لحظة حقيقة للدبلوماسية التي يجب أن تثبت أنها قادرة على خلق قيمة مُضافة للشعبين، من خلال اقتصاد إنتاجي، وأمن حقيقي، وجسور ثقافية متينة.
قصارى القول، إن نجاح الزيارة لن يُقاس بعدد الصور التي التُقطت أو عدد الصفحات التي كُتبت عنها، بل بقدرتها على وضع أسُس شراكة مختلفة، قائمة على المنفعة المتبادلة والاحترام الواقعي للمصالح، في نهاية المطاف. التاريخ لا يُكتب بالتصريحات، بل بالنتائج، واشنطن والمنطقة والعالم كله يراقبون، منتظرين ليروا أي فصل جديد سيكتبه هذا اللقاء في قصة علاقةٍ كان لها دائماً ثقلها ومغزاها.