مسارات السياسة والمال في ذروة تقاطعاتها.. لقاء الشرع ترامب- صندوق النقد الدولي- قطاع المصارف

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية- مها سلطان:

منذ يوم التحرير الذي نحتفي بذكراه الأولى بعد 19 يوماً (في 8 كانون الأول المقبل).. لم تتقاطع مسارات السياسة والاقتصاد في سوريا كما تقاطعت خلال الشهرين الماضيين. ذروة التقاطع كانت مع زيارة الرئيس أحمد الشرع الولايات المتحدة الأميركية ولقائه الرئيس دونالد ترامب في الـ10 من شهر تشرين الثاني الجاري، وكان سبقها العديد من المحطات الدبلوماسية على المستوى الدولي وبشكل أبقى سوريا ضمن دائرة التركيز الشديد لناحية ما ستحمله نهاية هذا العام من تطورات- يراها فريق واسع من المراقبين- بأنها ستكون حاسمة باتجاهين: سوريا والمنطقة.

ميزة التقاطع آنف الذكر أنه كان بوجهين داخلي دولي، ما يعني أن المسارات التي نتحدث عنها هي في المرحلة الأكثر أهمية وانجازاً، وقد تحمل الأيام المقبلة بشائر للسوريين بدءاً من الاحتفاء بالذكرى الأولى ليوم التحرير، حيث من المقرر طرح العملة الوطنية الجديدة.

وإذا كانت العين تتركز كلياً على الاقتصاد فإن للسياسة أبوابها التي لا بد من فتحها ليفتح بعدها الاقتصاد أبوابه. صحيح أن الرؤية الدولية في هذه الألفية تنطلق من الاقتصاد لرسم السياسات إلا أنه لا يمكن بالمجمل الفصل بينهما بحيث تكون العلاقات الاقتصادية جيدة، والسياسية سيئة، والعكس بالعكس. يمكن للاقتصاد أن يتقدم على السياسة لكن لا يمكن إلا الأخذ بالقاعدة الأساسية القائلة بأن السياسة اقتصاد مكثف، أو السياسة في خدمة الاقتصاد.

 تعزيز الثقة

ما إن انتهت زيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن حتى أصدر صندوق النقد الدولي بياناً أعلن فيه أن الاقتصاد السوري «يظهر بوادر تعافٍ وتحسناً في الآفاق» وذلك في ختام زيارة وفد من الصندوق إلى سوريا ما بين 10 و 13 تشرين الثاني الجاري.

من نافل القول كم يشكل هذا الإعلان من أهمية بالغة على مستوى تعزيز الثقة، ليس فقط في بيئة الاستثمار بل في القيادة السورية الجديدة وسياساتها الاقتصادية. ومن هنا جاءت إشادة رئيس الوفد، رون فان رودن، بتمكن القيادة السورية «من اعتماد موقف مالي ونقدي صارم ضمن القيود العديدة التي تواجهها، بهدف ضمان الاستقرار الاقتصادي والمالي».

وكان رودن أكد أن الصندوق سيقدم مساعدة فنية شاملة لتعزيز الإطار المالي لدعم الإصلاحات الحكومية مع التركيز بشكل خاص على القطاع المالي وقطاع المصارف. ولا يخفى أهمية هذين القطاعين كقاطرة للتنمية والنهوض الاقتصادي.

ما يُطمئن في مجمل المحادثات التي تجريها القيادة السورية، وعلى رأسها الرئيس الشرع مع المؤسسات المالية الدولية – وأبرزها صندوق النقد والبنك الدولي- هو التأكيد في كل مرة على أن سوريا لن تعتمد على الاستدانة (القروض) بقدر ما ستعمد على جذب الاستثمارات.

الرئيس الشرع في زيارته لواشنطن التقى مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا حيث تركز المباحثات على رفع مستوى التعاون، ليتبع ذلك زيارة وفد من الصندوق إلى دمشق (وفق ما ذكر آنفاً) وصدور بيان له حول مؤشرات تعافٍ في الاقتصاد السوري.

بين القروض والمساعدات الفنية

وفق الخبراء الاقتصاديين هناك فارق جوهري بين القروض المالية والمساعدات الفنية، وسوريا تسعى للثانية، أي إلى الدعم في إصلاح النظام الضريبي والأدوات المالية والسياسة النقدية، من خلال تحديث البنك المركزي السوري، وتطوير الإحصاءات الاقتصادية، وإدارة الدين العام. هذه المساعدات تُقدَّم عادة للدول الأعضاء من دون شروط ولا تدخل في السياسة المالية مثل القروض.

ويرون أن وجود علاقة عمل مع الصندوق يجعل الدول الأخرى والمنظمات (مثل البنك الدولي أو الاتحاد الأوروبي) أكثر استعدادا للتعاون أو التمويل، لأن الصندوق يُعدّ جهة تقييم مستقلة لمتانة الاقتصاد. أي إن العلاقة مع الصندوق أداة لتحسين السمعة المالية وليست هدفاً للحصول على قروض مباشرة.

هذا الموقف من صندوق النقد الدولي يتلقى دعماً قوياً وثابتاً من ترامب عبر تصريحات متوالية آخرها خلال لقائه مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في واشنطن أمس الأول، حيث أشاد بالرئيس الشرع مؤكداً أن سوريا ستحقق تقدماً عظيماً بقيادته.

لذلك هناك اجماع على أن زيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن ولقائه ترامب، كانا محطة كبيرة على مستوى العلاقات الثنائية الاقتصادية والسياسية، من جهة.. ومن جهة ثانية على مستوى تموضع سوريا إقليمياً ودولياً.. ومن جهة ثالثة على مستوى تعزيز الثقة الاقتصادية، وهذه الثقة تتحقق بمسارين أساسيين: رفع العقوبات بصورة نهائية، وعلاقة متينة مع واشنطن، وهو ما تديره القيادة السورية بنجاح مشهود له.

المسار الداخلي

خلال اليومين الماضيين، قاد الرئيس الشرع تحركاً بارزاً في أهميته ودلالاته على مستوى المسارات الاقتصادية الداخلية. التقى الرئيس الشرع أمس مديري المصارف العامة، والتقى أمس الأول مدير مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية ونوابه خلال زيارة لمقر المصرف.

اللقاءان تركزا على بحث أوضاع القطاع المصرفي ودوره في المرحلة الاقتصادية المقبلة والفرص المتاحة أمامه.. والإجراءات الفنية الخاصة باستبدال العملة الوطنية وفق معايير تقنية متقدمة يفترض أن تمنح النظام النقدي مزيداً من الاستقرار والقدرة على ضبط السوق.

وشدد الرئيس الشرع على أهمية القطاع المصرفي بوصفه ركيزة رئيسية في مسار إعادة بناء الاقتصاد الوطني، مؤكداً أن المرحلة المقبلة تتطلب تكاملاً بين المصارف العامة والخاصة لضمان استقرار مالي يواكب خطط التعافي والنمو.

هذا التحرك يعكس حجم الرهان الذي تضعه القيادة على إصلاح القطاع المصرفي وإعادة بنائه بما يتيح له مواكبة الاستثمارات الجديدة ودعم قطاعات الإنتاج والتنمية.

رؤية الرئيس الشرع

وفي الوقت نفسه يعكس هذا التحرك الرؤية التي يعتمدها الرئيس الشرع لبناء سوريا، فهي ليست مجرد محاولات لترميم ما دمرته الحرب، بل مشروع ضخم متكامل الأركان يُدار بعقلية دولة متقدمة، ويستلهم نجاحات إقليمية ودولية، ويرى أن سوريا تمتلك من الإمكانيات والقدرات ما يكفي ويزيد لتحقيق نموذج اقتصادي قائم على الإنتاج، مع تقليل الاعتماد على الدعم الحكومي الذي أنهك الاقتصاد لعقود، في عهد نظام الأسدين.

الأهم أنه هناك ثقة أميركية/دولية، بهذه الرؤية وبالسياسات التي يعتمدها الرئيس الشرع. هذه الثقة هي- بالقراءة العملية- تعني تجاوز نصف الطريق في مشروع بناء الدولة والنهوض الاقتصادي واستعادة المكانة والدور. صحيح أن التحديات هائلة لكن الإرادة قائمة والعزيمة حاضرة والرؤية واضحة.

Leave a Comment
آخر الأخبار