الحرية- جواد ديوب:
هو العود، بكامل مهابته ورقّته، رفيقُ سهراتنا الحنون، نُودِعُ عنده أحزانَنا في لحظات الفقدان والخيبات، ونأملُ في رنينه المرِح أفراحاً نتمنّى أن تدوم.
الوثائقُ التاريخية والمخطوطات الأثرية تقول إن أصوله تعود إلى العصر الآكادي الألف الثالث قبل الميلاد في العراق، وإن الأقوام المجاورة اقتبسوه فأصبح جزءاً من تراثهم يفاخرون بنسبه إليهم، ويتنافسون على ابتكار منمنمات تميزه وتعطيه نكهة خاصة.
وقد اطلعتُ شخصياً على لوحة “فريسكو” ضخمة موجودة في المتحف الوطني بدمشق تعود إلى العصر الإسلامي الأموي (بين ٦٦١- ٧٥٠ ميلادي) اكتُشِفتْ كجزء من أرضية قصر الحير الغربي قرب مدينة تدمر/حمص، يظهر في اللوحة عازفان، أحدهما على العود (تبدو ملامح أنثى عازفة!) والآخر مع آلة هوائية تشبه الناي، واللافت أن شكلَ العود فيها يبدو بعنق (زند) قصير، وينتهي ب(بنجق/حامل المفاتيح) فيه أربعة مفاتيح فقط!

نسغٌ مستمر!
من نسغ هذا التاريخ أبدعَ الحِرفيون السوريون في طريقتهم المميزة بزخرفة كل شيء، منذ أسلافهم حتى اليوم، وأورثوا مهنة صناعة العود لأولادهم وأحفادهم الذين اعتمد بعضهم الطريقة القديمة في الحرفة مثل أعواد الدمشقي علي خليفة الذي صنع عوداً خاصاً بالراحل محمد عبد الوهاب وأصبح فيما بعد من مقتنيات المطرب السوري صفوان بهلوان!
بعضهم الآخر أضاف تطعيمات معاصرة مثل أعواد زرياب ومشغل الأستاذ حسين السبسبي وابنه عازف العود المحترف محمد السبسبي، فيما أدخل المهندس الحلبي إبراهيم سكر، منذ أكثر من ١٥ عاماً تحديثات التقنية كالقص والتزيين بالليزر، وقام بتصنيع بيت العود من مواد “الفيبر” المقسّى بدلاً من الجلد الصناعي لحفظه من التلف وتقلبات الطقس، وخاصة أثناء شحن الأعواد خارج البلد وخلال سفر العازفين.
الخشبُ الحنون!
ويوضح الباحث وعازف العود عبد اللطيف أحمد لاذقاني لـ “الحرية” أن ميزةَ العود السوري عن العود المصري (الشكل السمكاوي) والعراقي الكبير، والتركي ذي الصوت الحاد (المناسب أكثر لعزف اللونغات وقوالب السماعي)… الميزة هي سلاسة المقاسات السورية وجمالياتها (طول ما تسمى طاسة العود تكون ٤٩ سنتمِتراً، وعرضها ٣٦، وعمقها حوالي ١٨ وطول الزند ٢٠ سم)، لذلك مهما طال زمنُ العزف عليه في السهرات والحفلات لا يتعبُ العازف من احتضان العود بين يديه.
الأمر الثاني، يردف اللاذقاني، هو نوعية الصوت الخارج من فتحات العود والمناسب جداً للتطريب في الموسيقا الشرقية (مقاس فتحة الشمسية الكبيرة في العود السوري من ١١ إلى ١١ونصف سنتيمتر بينما في التركي مثلاً من ٨ إلى ٩ سم)، ويضيف بأن العود السوري يتميز عالمياً بخشب “الجوز الشامي” المعروف بـ “الخشب الحنون”، ويطلعنا على سر من “أسرار المصلحة” هو طريقة تجفيف الماء الموجود في خشب شجر الشوح المستخدم في صدر (وجه) العود، فالحرفيون السوريون ابتكروا طريقة وضعه في الرماد عدة شهور لتنشيف حتى بقايا الرطوبة منه، وهذا يعطي مسامات الخشب ميزة نقل ذبذبات الصوت بشكل صافٍ ورخيم!
العود السوري في متاحف العالم!
ويشير اللاذقاني إلى أن الدمشقيين من أكثر صانعي الأعواد عراقة في العالم، فأعواد “عبدو النحات” من مشغولاته النادرة أصبحت مقتناة في المتحف الوطني بباريس، وأمستردام، وفي قونية بتركيا يوجود عود الشريف العراقي محي الدين حيدر من صناعة عبدو النحات، ونسخة نادرة في متحف الرئيس علييف بأذربيجان، وكذلك في بوسطن بأميركا.
تطعيمٌ بالموزاييك!
فيما المعلّم منصور حيدر، ابن صانع العود والشاعر الراحل فؤاد حيدر، والذي قضى في ورشة والده أكثر من ٤٠ سنة في حرفة صناعة الأعواد بين روائح وألوان الخشب وعلب الغراء والكثير من الذكريات، يقول لنا:

إن خشب الورد، وخشب الجوز البلدي المختلف عن (السيسم/الجوز الهندي) هو الأفضل لصناعة ظهر العود (الطاسة) مع العنق أو زند العود لأنه متينٌ وخالٍ من الصمغيات التي تعوق رخامة الصوت، أما “البنجق” أي حاملة المفاتيح تكون عادةً من خشب المشمش القاسي.
ويكمل: إن كل تفصيل في العود يؤثر في جودة الصوت، من الفتحات، إلى مكان تركيب الفَرَس أو ما يسمى بالجسر أي مكان استناد أو تعليق الأوتار على صدر العود، بالإضافة إلى مواقع الجسور الداخلية غير الظاهرة والملتصقة على وجه العود من الداخل، والتي يجب أن تكون مدروسة علمياً وفيزيائياً بشكل دقيق جداً في تموضعها مثل صيوان الأذن لتجعل الصوتَ المتكون داخل طاسة العود يخرج عبر الفتحتين بالشكل الأمثل.
المعلّم منصور حيدر يؤكد معلومات اللاذقاني بأن العائلات التي امتهنت حرفة صناعة العود في دمشق كانت عائلة النحات: حنا وروفان الجيل المؤسس، ثم عبدو…
وأنهم أول من بدأ المهنة في حيّ القيمرية بدمشق القديمة بدءاً من عام 1890 حتى آخرهم في الخمسينيات كان جرجي النحات، وهناك الأرمني سِنباط ديربدروسيان في الثلاثينيات من القرن الماضي، وهناك جميل قندلفت الذي صنع عوداً خاصاً لفريد الأطرش كنوع من تحية لعظمته الموسيقية، وكان العود مطعّماً بالموزاييك، وجميعهم تميزّوا بدقة تعشيق أجزاء العود.
ويضيفُ أن بيت “الوتّار” في دمشق في الثلاثينيات كانوا يصنعون أوتار العود فقط، يشتغلونها من أمعاء الغنم، يجففونها ويجدلونها ويبيعونها لورشات صناعة العود.
ويختم حيدر أنه حاولَ تصنيع نسخة عود تحاكي النموذج الأول للعود في التاريخ بحسب الرسومات المتخيلة عن الكتابات المسمارية؛ لكنها بقيت نسخة تجريبية فقط ليست للتداول أو للبيع، وأن الشكل المعاصر للعود السوري هو المحبب والمفضل لمشاهير العازفين لسمعته العريقة ومتانته في الزمن.