الحرية ـ سراب علي:
في ظل التصريحات الرسمية التي تؤكد أن النفط السوري حق سيادي للشعب، يبرز سؤال ملحّ حول الآثار الاقتصادية المباشرة لعائدات النفط على الخزينة العامة، وتقييم إمكانية معالجة أزمة الكهرباء المزمنة من خلال هذه الموارد، وما الأولويات الاقتصادية العاجلة التي يجب توجيه العائدات النفطية نحوها لتحقيق الاستقرار والتنمية؟
بداية قدم مدير معهد إدارة الاعمال في جامعة اللاذقية الدكتور عبدالله أوبان توصيفاً دقيقاً أشار فيه إلى أنه قبل عام 2011، كان النفط عِماداً للاقتصاد السوري، حيث بلغ الإنتاج حوالي 385 ألف برميل يومياً، وشكّل ما يصل إلى 30% من الناتج المحلي الإجمالي، ما وفر اكتفاءً ذاتياً وعائدات تصدير سنوية تقدر بـ 3 مليارات دولار، ولكن بعد اندلاع الحرب، انهار هذا القطاع تماماً، حيث فقدت الحكومة السابقة السيطرة على معظم الحقول، خاصة الغنية منها شرق الفرات في محافظتي دير الزور والحسكة، وانخفض الإنتاج في مناطق سيطرة الحكومة السابقة إلى أقل من 20 ألف برميل يومياً، وبحلول عام 2021، قدّر إجمالي الإنتاج الوطني بنحو 86 ألف برميل يومياً فقط، فيما قدرت الأضرار المباشرة وغير المباشرة التي لحقت بقطاع النفط والغاز بنحو 100 مليار دولار، وبهذا حُرمت الخزينة العامة من عائدات هذا المورد الحيوي لأكثر من 14 عاماً.
علامة فارقة
وأوضح د.أوبان في تصريحه لـ”الحرية” أن عودة التصدير الرسمي في سبتمبر 2025 بشحنة 600 ألف برميل عبر ميناء طرطوس، تمثل علامة فارقة، لكنها تظل خطوة أولى ضمن مسار طويل لإعادة الإعمار، وتشير التقديرات الاقتصادية إلى أن شحنة التصدير الأولى جلبت عائدات تُقدر بحوالي 36-40 مليون دولار، وفي حال انتظام الصادرات، يمكن أن تدخل عشرات الملايين من الدولارات إلى خزينة الدولة شهرياً، ما يوفر مصدراً مهماً للعملات الأجنبية.
ويرى أوبان أن المكاسب الأوسع تتجاوز الإيرادات المباشرة، لتشمل توفير فرص عمل جديدة وتقليل فاتورة استيراد المشتقات النفطية التي تكلف البلاد أكثر من 1.8 مليار دولار سنوياً.
حل جزئي وضرورة للاستثمار..
مدير معهد إدارة الأعمال أشار إلى أن التحدي الكبير هو أن هذه العائدات لا زالت محدودة مقارنة بحجم الدمار، حيث يُقدّر احتياج قطاع الطاقة وحده لاستثمارات تتراوح بين 250 و300 مليار دولار لإعادة الإعمار، ولا شك أن الغاز الطبيعي المستخرج مع النفط يلعب دوراً محورياً في توليد الكهرباء ومع ذلك، فإن استعادة السيطرة على الحقول لن تحل أزمة الكهرباء بين عشيّةٍ وضحاها، وذلك للأسباب التالية:
هوة الإنتاج الهائلة وانخفاض إنتاج الغاز وتدمير البنية التحتية والاعتماد على المصادر التقليدية كون سوريا تعتمد بنسبة 94% على المحطات الحرارية التي تعمل بالمشتقات النفطية، وهو ما يجعلها رهينة توفر الوقود.
وأمام هذا يؤكد أوبان على ضرورة توجيه جزء كبير من عائدات النفط المستقبلية لإعادة تأهيل قطاع الكهرباء، وهو ما يتوافق مع الرؤية الحكومية للوصول إلى 16-18 ساعة تغذية يومياً بحلول عام 2026، كما تعمل الحكومة على تنويع مصادر الطاقة من خلال مشاريع للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، كما يتضح من مذكرة التفاهم مع شركة قطرية بقيمة 7 مليارات دولار لتوليد 1000 ميغاواط بالطاقة الشمسية.
عقد جديد
ويشير أوبان إلى أنه لضمان تحقيق الاستفادة المثلى من عائدات النفط لصالح المواطن السوري، يجب وضع ضمانات صارمة تحكم عمليات الاستثمار وإدارة الإيرادات، منها:
السيادة الوطنية والشفافية: يجب الحفاظ على دور قيادي للشركة السورية للنفط في إدارة المشاريع، ووضع معايير واضحة للإنتاج تحافظ على الثروة الوطنية وتمنع استنزافها، كما يجب أن تكون نسبة العاملين السوريين في أي مشروع لا تقل عن 70% لنقل الخبرة وتوفير فرص العمل.
حوكمة العائدات والرقابة: حيث يجب إنشاء صندوق وطني للتنمية والإعمار تُودع فيه عائدات النفط، وتدار بشفافية كاملة وتحت إشراف جهات رقابية مستقلة، كما يجب أن تُوجَّه نسبة محددة من الإيرادات مباشرة إلى تمويل الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم.
العدالة في توزيع المنافع: يجب تحديد حصة أرباح الشركات المستثمرة مسبقاً (ألا تتجاوز 30% من صافي الأرباح) مع اشتراط برامج تدريبية لتأهيل الكوادر السورية المصاحبة للمشاريع.
وأوضح أوبان أولويات توجيه العائدات النفطية على النحو التالي:
1- العاجلة: استقرار الخدمات الأساسية عبر إعادة تأهيل قطاع الكهرباء، ودعم أسعار المواد الأساسية (الخبز، الوقود، الدواء)، والإعمار العاجل للمرافق الحيوية (مدارس، مستشفيات، مياه).
٢ـ المتوسطة: إعادة بناء القدرات الإنتاجية في الصناعة والزراعة، وضخ استثمارات لتطوير حقول النفط والغاز وزيادة إنتاجها.
٣ـ الاستراتيجية طويلة الأمد: إنشاء صندوق سيادي للتنمية لضمان دخل مستقبلي، والاستثمار في التنويع الاقتصادي عبر التعليم والقطاعات الواعدة كالتقنية والطاقة المتجددة.
جسر وليس غاية
يؤكد د.أوبان أن عودة النفط تمثل فرصة تاريخية لإعادة الإعمار، لكنها ليست حلاً سحرياً فمقياس النجاح الحقيقي يكمن في كيفية إدارة العائدات وتوزيعها ضمن إطار وطني عادل وشفاف، لتحويل هذه الثروة إلى جسر يعبر عليه الشعب السوري نحو مستقبل مستقر ومزدهر بعد سنوات الحرمان.