الحرية- عمران محفوض:
يبدو أن تكهنات ما بات يسمى “خبراء الاقتصاد” حول ارتفاع معدل التضخم ٱتت أُكلها، وأصبحت أمراً واقعاً في سوق يعيش فترة المراهقة أو سن ما قبل الحصول على هويته الاقتصادية، وربما الاجتماعية.
صحيح أن بعض المواطنين؛ أو لنقل معظمهم؛ توقّع ارتفاع أسعار المواد والسلع بعد زيادة الرواتب مباشرة، إلّا أنّ ذلك لم يكن من باب التّمنّي؛ بل انطلاقاً من مقولة “المكتوي لسانه من الحليب ينفخ في اللبن”، وبغضّ النّظر مَنْ سبق مَنْ في توقُّع قدوم موجة الغلاء الحالية، إلّا أننا نستطيع القول: إن رياح الغلاء هبّت في عزّ الموسم الزراعي فقلبت موازينه، ورفعت أسعار الخضار والفواكه بنسب متفاوتة وكبيرة، وللأسف انتقلت جائحة الغلاء إلى المنتجات الحيوانية من بيض مائدة ولحوم حمراء وبيضاء؛ وزاد في الطين بلة حين شملت هذه الجائحة الغاز المنزلي والمازوت والبنزين من دون أن يُوضع في نهاية قائمة الغلاء “نقطة أنتهى”، لتبقى أبوابها مفتوحة لدخول مواد أخرى إليها في الأيام أو الأسابيع القادمة إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات معاكسة في القريب العاجل.
بعد هذا الغلاء غير المبرر، وما سبقه من حسميات وصلت نسبتها إلى 20% من الراتب المقطوع، نستطيع الحديث عن محاولات غير سارة تنفذها مجموعة من التّجار والصناعيين إلى جانب النقابات؛ وما يتبع إليها من صناديق تعاونية واجتماعية وصحية؛ قضمت معظم الزيادة التي أضيفت إلى الرواتب والأجور مطلع الشهر الجاري، وتالياً حرمت أطفال وعائلات العمال منها، وأعادت المستوى المعيشي إلى المربع الأول في رقعة السنوات العجاف.
شخصياً.. لست ممن يدّعون أن تصريحات بعض “خبراء الاقتصاد” محض تحليلات، بل متأكد أنّها تسريب معلومات، فالسّنوات الماضية كشفت للرأي العام أن للكلمة ثمنها، وللمعلومة مقابلها، خاصة أنّ عدداً ممن يزعمون أنهم “خبراء اقتصاديون” يعملون أو يطمحون للتعاقد مع شركات وجهات خاصة مستفيدة من تتالي موجات الغلاء، بل وتنتظر مواسمها بفارغ الصبر لإضافة “مدماك” جديد في أبراج امبراطورياتها المالية.
لكن.. ماذنب هؤلاء الموظفين والعمال الذين صبروا طوال عمرهم الوظيفي لتأتي زيادة على الرواتب بنسبة 200%، على أمل أن ترسم الفرحة على وجوه أطفالهم، غير أن التجار والبائعين لم يمهلوهم أكثر من أسبوعين حتى يباغتوهم بأسعار مرتفعة، ويقلبوا حالتهم من تفاؤل إلى تشاؤم شبه مستدام، خاصة وأن أيلول القادم هو الشهر الموعود لتخزين مونة الشتاء، وشراء مستلزمات طلاب المدارس، ودفع أقساط الجامعات “لمن استطاع إليها سبيلاً “.
لا أعتقد أن الحكومة ستسمح للتجار والصناعيين بكسر خاطر من سعت ليل نهار لجمع الأموال من أجل جبر خواطرهم، والأهم ردم مستنقع الفقر الذي عاشوا فيه لعقود طويلة، وعانوا من آثاره القاسية على معيشتهم من جوع وأمراض وأمية وهجرة داخلية وخارجية، وحين أتى الوقت المناسب لتغيير الحال إلى الأفضل، يطل الغلاء برأسه مجدداً ليسيطر على الأسواق، ويفرض نفسه كواقع لا يُقهر رغماً عن أنف جميع الزيادات مهما كانت نسبها وأرقامها وأوقاتها.