الحرية- علي الرّاعي:
تأتي الكثير من لوحات الفنانة التشكيلية فاطمة أسبر بوصفها مساحة تأمل عميقة تتجاور فيها الكتلة والفراغ، الظلمة والوهج، الجسد والظل، اللون ونقيضه. وليست هذه الأعمال مجرّد تكوينات بصرية معزولة، بل تبدو كعتبات تتكئ على تجربة داخلية طويلة، تختزن الذاكرة الفردية والجمعية، وتحيل المشاهد إلى أسئلة وجودية تتعلّق بالغياب والحضور، والهشاشة الإنسانية، والبحث الدائم عن نقطة ضوء قادرة على إعادة ترتيب العالم.
العتمة كحاضنة للمعنى
تهيمن العتمة بوصفها العنصر البصري الأول على معظم أعمال الفنانة فاطمة اسبر.. حيث الخلفية السوداء ليست مجرّد اختيار لوني، بل هي نوع من الحيّز النفسي الذي يبدو أقرب إلى الفراغ الكوني، أو المساحة التي تسبق التكوين. العتمة هنا ليست سلبية؛ إنها مساحة خصبة، ينبت فيها الشكل، وتولد منها الإشارات البصرية. هذا الاستخدام للعتمة يذكّر بتجارب تشكيلية عربية معاصرة اعتمدت الظلام كمنطقة خصبة للتعبير عن القلق والرغبة في الانعتاق. لكن فاطمة أسبر تُدخل العتمة في سياقٍ مختلف، فتجعلها أرضية للضوء وليس نقيضاً له. فالعتمة هي الخلفية التي يخرج منها الشكل الرمادي، وهو بدوره ليس جسداً واضحاً- كما في إحدى لوحاتها- بل كتلة شبه بشرية، هشّة، متآكلة، كأنها تتشكّل من رماد أو من أثر شيء كان ثم غاب.
الكتلة الرمادية.. الجسد كذاكرة
الكتلة المركزية في هذه اللوحة – مرفقة مع المقال- تثير إحساساً قوياً بالتجسد، رغم أنها ليست جسداً محدداً. يمكن تلمّس خطوط كتفين، امتداد جذع، ذراعين رفيعتين، وأطرافٍ تتلاشى نحو الأسفل. هذا التلاشي هو ما يجعل الكتلة أشبه بذاكرة جسدية، وليس بتمثيل تشريحي. يبدو أن الفنانة تتعامل مع فكرة “الحضور المشوّه”، كأن الجسد هنا يعيش بين طورين: وجود وغياب، بروز ومحو.
الملمس الكثيف الذي يغطي الكتلة الرمادية، بتعرجاته الدقيقة، يعزز الإحساس بالتآكل. إنّه يشبه أثر الحريق، أو تراكمات الزمن على سطحٍ تركته الحياة بلا رعاية. ربما تريد أسبر القول إن الإنسان ليس شكلاً ثابتاً، بل أثر. واللوحة لا تقدّم لنا شخصاً، بل تقدم أثره الذي يظل معلقاً بين الذاكرة والنسيان.
الأحمر.. الجرح والبعث معاً
في أسفل لوحتين من أعمالها يتكرر اللون الأحمر، مرة كأرضية، ومرة كبقعة أو نقطة متوهجة. الأحمر هنا ليس عنيفاً، بل يشبه جمرة هادئة أو نبضة حياة. في اللوحة الأولى، تظهر نقطة حمراء تتدلّى بين الكتلة الرمادية والأرض، كأنها قطرة تنحدر من شيء مجهول. ربما هي دمعة، أو قطرة دم، أو مجرد رمز لنقطة اتصال بين المادي والروحي.
أما في اللوحة الثانية، فتبدو الدائرة الحمراء كعين صغيرة وسط مساحة رمادية كثيفة، كأنها نقطة وعي أو بصيرة. إذا كانت العتمة هي الذاكرة، والرمادي هو الجسد، فإن الأحمر هو الحياة التي تصرّ على البقاء. هذا الاستخدام الرمزي للأحمر في حضور طاغٍ للأسود والرمادي يمنح اللوحات توتراً بصرياً، ويحول الأحمر إلى علامة مقاومة، أو علامة معنى.
بين التجريد والتصوير
تتحرك أسبر ضمن منطقة وسطى بين التجريد والتصوير. اللوحتان اللتان أشرنا إليهما؛ لا تُصنّفان كأعمال تجريدية خالصة، لأن الكتلة المركزية تشير بوضوح إلى شكل بشري. وفي الوقت ذاته، ليست هناك محاولة للإحكام التشريحي أو الوصف الواقعي. هذا الموقع الوسيط يمنح العمل قوة خاصة تسمح له بالتكلّم في مستويات متعددة. وتقنياً، تعتمد الفنانة على تباين حاد بين السطوح: سطوح ناعمة داكنة، وأخرى خشنة متكلسة تبدو وكأنها نسيج عضوي. هذا التباين في الملمس يخلق لغة موازية للّون، ويوحي بأن اللوحة ليست فضاء بصرياً فقط، بل فضاءً مادياً، تُرى وتُلمَس في آن واحد.
الإنسان في مواجهة الفراغ
يمكن قراءة اللوحات بوصفها تأملاً في حالة الإنسان المعاصر: هشّته، وحدته، محاولته إيجاد موطئ قدم وسط عتمة الوجود. الكتلة البشرية في اللوحة الأولى لا تتحرك، ولا تتخذ وضعية محددة؛ بل تبدو معلّقة، كأنها مهددة بالسقوط أو الذوبان. في المقابل، يوفر اللون الأحمر أرضاً أو جذراً، كأنه يشير إلى حدٍّ أدنى من الثبات.
في اللوحة الثانية، يتحول الأحمر إلى “عين”، أو ربما “جرح”، لكن وضعه في مركز مساحة رمادية كثيفة يوحي بأن هناك شيئاً يولد داخل الضباب. إنها صورة تشبه البذرة التي تنبت داخل العتمة.. ربما هي محاولة لتأكيد أن الإنسان، رغم ما يواجهه من محو أو انطفاء، يحمل في داخله نقطة مقاومة صغيرة لكنها مكثّفة، قادرة على إعادة بناء المعنى.
من الفردية إلى الحس الجمعي
من خلال هذه الملامح يمكن القول إن أسبر تنتمي إلى تيار تشكيلي معاصر يوظف التجربة الفردية كمدخل لأسئلة أكثر شمولاً. فالإنسان هنا ليس فرداً محدداً، ولا جسداً بعينه؛ إنه رمز عام، يمكن إسقاطه على الذات، على الآخر، على المجتمع، أو حتى على الوطن.. ومع إن اللوحات تبدو شديدة الخصوصية، فإنّ رمزيتها المفتوحة تجعلها قابلة لقراءات جماعية متعلقة بالصراع، والتشتت. في هذا السياق، يصبح اللون الأحمر ليس مجرد عنصر بصري، بل إشارة لشيء ينادي بالعودة: الجذور، الدم، الألم، الوطن، أو حتى الحياة نفسها.
سرد بصري بلا كلمات
على الرغم من أن اللوحتين منفصلتان، إلّا أن بينهما إيقاعاً سردياً. الأولى تقدّم الجسد المعلّق، والثانية تقدّم الأرض أو الفضاء الذي يحتضنه. الأولى تبحث عن توازن، والثانية تشير إلى إمكانية وجود معنى في الداخل، في نقطة صغيرة تشبه بذرة الضوء. هذا التواصل البصري يؤسس لنوع من الحوار الداخلي بين اللوحتين، يصنع سرداً غير منطوق، سرداً يعتمد على علاقة اللون بالفراغ، والشكل بالغياب.
لوحات تقف عند تخوم الوجود
تحملُ أعمال فاطمة أسبر روحاً تأملية عميقة، وتقدّم تجربة بصرية تشتغل على فكرة الإنسان بين الوجود والعدم. من خلال لغة لونية مقتصدة لكنها قوية، ومن خلال أشكال تتأرجح بين التجريد والتجسيد، تنجح الفنانة في خلق فضاء بصري قادر على دفع المشاهد إلى مواجهة ذاته.. إنها لوحات تُرى أكثر مما تُشرح، وتُشعَر أكثر مما تُقرأ. لوحات تقف على تخوم الوجود، وتعيد طرح السؤال الأبدي: من نحن حين تتآكل ملامحنا، وحين لا يبقى في العتمة سوى نقطة حمراء صغيرة تصرّ على أن تكون بذرة حياة؟!