في بحر المحتوى الرقمي السريع… هل يغرق المبدعون في الزمن البطيء؟

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية ـ حسين الإبراهيم:

  • ماذا يحدث حين يصبح الإبداع مرهوناً بخوارزمية؟
  • لماذا تراجعت قيمة “العمل المتقن” أمام “المنشور السريع”؟
  • هل يمكن للإبداع أن يعيش في بيئة لا تمنح وقتاً للتأمل؟

تنشر المنصات الرقمية كل يوم ملايين المواد الإبداعية من مقاطع فيديو وصور ونصوص، ليغمر هذا الطوفان الزخم الرقمي عقولنا وجداول أعمالنا؛ لكن القليل منها فقط يترك أثراً حقيقياً يستمر في الذاكرة. هل يعود ذلك إلى تراجع جودة الإبداع نفسه، أم إن المنصات الرقمية بصياغتها الخاصة تعيد تحديد مفهوم “القيمة”؟
اليوم، لا ينافس المبدع فقط مواهب أخرى أو أعمالاً فنية، بل يتحدى الزمن السريع الذي لا يمنح لحظة للتأمل، كما ينافس خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تقرر ما يظهر أولًا في شاشات المستخدم، وأيضاً مزاج جمهور يتغيّر لحظة بلحظة، يبحث عن المحتوى الخفيف السريع الذي يستهلكه في ثوانٍ معدودة. في هذه المعادلة الجديدة، يصبح الصراع الحقيقي ليس فقط على جودة العمل، بل على كيفية لفت النظر في بحر من المحتوى.
هل يستطيع المبدع أن يعيش ويبقى مؤثراً في هذا البحر المتلاطم من المحتوى، أم إنه سيغرق في عبء السرعة؟

الخوارزميات تتحدى فرص التأمل والتأثير

ثمة أرقام تُظهر بوضوح معركة المبدعين في ظل اقتصادات الانتباه التي يفرضها العصر الرقمي، حيث تتناقص فرص التأمل والتفاعل العميق لمصلحة المحتوى السريع الواقع تحت وصاية الخوارزميات والجمهور المتطلب:
نستهلها بمتوسط زمن مشاهدة المحتوى على إنستغرام لا يتجاوز 8 ثوانٍ، وهو زمن قصير جدّاً لا يمنح المتلقي فرصة للتعمق أو التأمل في المحتوى. فيما تُنشر يومياً أكثر من 95 مليون صورة على إنستغرام فقط. كما تشير دراسة من معهد MIT إلى أن تقييم المحتوى البصري يتم خلال 0.05 ثانية فقط. أما نسبة التفاعل مع المحتوى الطويل فقد انخفضت بنسبة 60 % خلال السنوات الخمس الأخيرة. وفي المقابل، نمت منصات مثل TikTok التي تشجع السرعة والمحتوى القصير بشكل متسارع.

بين المبدع التقليدي والمؤثر الرقمي

المبدع التقليدي

يقف المبدع التقليدي اليوم كمن ينحت في الصخر بينما من حوله يطبعون على الورق الخفيف. هو ذلك الكاتب أو الفنان الذي يختار أن يشتغل على مشروعه الإبداعي لأشهر، ينسج تفاصيله بعناية، ويمنحه أبعاداً فنية وفكرية لا تُختزل في منشور أو تغريدة. لا يلهث خلف التفاعل اللحظي، بل يؤمن أن العمل المتقن يحتاج إلى زمن لينضج، وإلى قارئ متأمل.

المؤثر الرقمي

يبرز المؤثر الرقمي بوصفه لاعباً رئيسياً في صناعة المحتوى، لا ينتظر الإلهام بل يصنعه وفق إيقاع الخوارزميات. هو منتج يومي، يتنقل بخفة بين صيحات الموضة الرقمية، ويعيد تشكيل نفسه باستمرار ليتماشى مع متطلبات المنصات وسلوك الجمهور. لا يراهن على العمق، بل على الجاذبية الفورية، حيث تُقاس القيمة بعدد المشاهدات، لا بعدد الأفكار.
يستخدم المؤثر أدوات رقمية متقدمة، من الذكاء الاصطناعي إلى تقنيات التحرير التلقائي، بل يصل الأمر أحياناً إلى خلق شخصيات افتراضية تتفاعل وتؤثر دون أن تكون حقيقية. في بيئة تفاعلية عالية، يصبح النجاح مرهوناً بالردود الفورية، والتجاوب اللحظي، والتكيف المستمر. إنه نموذج ناجح في اقتصاد الانتباه.
هنا نواجه سؤالاً:
كيف يمكن تثبيت قيمة مستدامة في عالم لا يتوقف عن التبدل؟


سرد ذاتي

توقعت أن يلقى كتابي “خوارزميات الصحافة الذكية“، صدى واسعاً بين الأوساط الصحفية، وخاصة شباب الجيل الجديد الذين أرى فيهم مستقبل الإعلام. كنت أظن أن يكون الكتاب مصدر إلهام لهم. لكن الواقع فاجأني؛ لم يتحقق ذلك الاهتمام المتوقع، بل بدا لي أن صناعة الكتب قد دخلت في مرحلة تراجع عميق، مضطرة بسبب الثورة الرقمية وسرعة المحتوى إلى إعادة التفكير في دورها وأهميتها.
موت المؤلف… ولادة النص المتناسل: يفتح رولان بارت، في مقولته الشهيرة «موت المؤلف»، الباب لفهم جديد للنص في العصر الرقمي. فالنص لم يعد يُقرأ بوصفه امتداداً لذات الكاتب، بل أصبح كائناً حياً يتناسل ويتغير عبر إعادة النشر، التعليق، التعديل، والاقتباس.
من النص اللغوي إلى النص الرقمي: تلفت الناقدة هاديا كلش النظر إلى التحول السينمائي الذي فرضته الثقافة الرقمية، حيث لم يعد النص مجرد كلمات، بل أصبح مزيجاً من صور، رموز، روابط، وتفاعلات. هذا التغير يستوجب تجديد أدوات النقد الأدبي، لأن النص الرقمي لا يُقرأ بالطريقة نفسها التي يُقرأ بها النص الورقي، بل يتطلب تفكيكاً متعدد الطبقات.

الوعي الزمني

في ظل التحديات التي يفرضها زمن السرعة الرقمية، يشعر المبدع الرقمي بحاجته لأن يمتلك وعياً زمنياً حقيقياً. وبضرورة التمييز بين اللحظات التي يجب أن يسرع فيها لإيصال فكرته، وتلك التي يحتاج فيها إلى التمهل والعمق لإبداع محتوى يظل مؤثراً مع مرور الوقت. هذا الوعي الزمني هو مفتاح الصمود في بحر المحتوى الهائج.
حان الوقت لإعادة تعريف النجاح الإبداعي بعيداً عن معايير عدد المشاهدات والإعجابات التي تسيطر على المشهد الرقمي اليوم، ليستقيم معيار النجاح بعمق الأثر الذي يتركه العمل في وعي الجمهور، بمدى قدرته على التحفيز والتغيير، وليس بسرعته وقصر عمره.
مؤخراً، ظهرت منصات جديدة تحتفي بما يسمى بالإبداع البطيء، مثل Medium والمجلات الرقمية المتخصصة التي تمنح مساحات رحبة للنص الطويل والدسم، فتمنح الكاتب والمتلقي فرصة لخلق حوار حقيقي متين بعيداً عن ضوضاء السرعة.

 
إذاً... في زمن يطغى عليه التعجيل والسطحية، يصبح البطء فعل مقاومة، والمبدع الحقيقي هو من يعرف كيف يسبح ضد تيار الزحمة والسرعة، محافظة على عمق رؤاه وإبداعه، ليترك أثراً لا يمحى.
Leave a Comment
آخر الأخبار