في دلالات الاتفاق الجيوسياسي مع «قسد».. سوريا والقوة الكامنة في إدارة التفاوض وفي ترتيب أوراق الإقليم

مدة القراءة 9 دقيقة/دقائق

الحرية – مها سلطان:
جاء الإعلان عن الاتفاق التاريخي مع قوات سوريا الديمقراطية «قسد» مساء الإثنين، ليعيد منسوب التفاؤل بين السوريين إلى سابق عهده، وليؤكد مرة أخرى أن المسار على الطريق الصحيح. قد يَختلُّ قليلاً، وهذا ضمن التحديات المتوقعة، لكن القدرة على استعادة التوازن حاضرة في كل مرة (هذا ما ثبت حتى الآن) دون التقليل من حجم تحديات ما زالت قائمة، وأخرى قادمة، حيث مازالت سوريا الجديدة تكافح في سبيل استعادة وحدتها الجغرافية والديمغرافية، والتعافي الاقتصادي.

ما بعد الاتفاق مع «قسد».. لنعد قراءة المشهد في سوريا والجوار مرفقاً بالموقف الأميركي ومفاجآت محتملة في الأفق

ورغم أن الاتفاق -بتفاصيله وأبعاده ورسائله- هو أبعد بكثير من مجرد اتفاق داخلي/ثنائي، إذا جاز لنا التعبير، إلا أنه وانطلاقاً من الداخل، هو اتفاق الخطوة الأوسع والأهم والأكثر ضرورة على مستوى التعافي الوطني الوحدوي باعتباره يقلب الطاولة على مشاريع التقسيم ومن يقف وراءها.. فكيف إذا أضفنا إلى هذا المستوى مساري التعافي السياسي والاقتصادي؟.. من هنا يكتسب الاتفاق أهميته التاريخية، وبات على المحللين والمراقبين إجراء عملية إعادة قراءة للمشهد السوري، وللرأي العام السوري بمساراته التي ما زالت في بعضها مفاجئة، ما زال الحدث السوري مستمراً ومفتوحاً، وما زال في عدد من تطوراته غير قابل للتوقع والتنبؤ.

– السوريون تنفسوا الصعداء
عنصر المفاجأة في الاتفاق مع «قسد» انسحب داخلياً وخارجياً، تنفس السوريون الصعداء بعد أيام ثقيلة جداً أرخت بظلال الحزن والخوف والتشاؤم بفعل ما اصطلح على تسميته أحداث الساحل.
إنه اتفاق كبير كما يقول السوريون لا بد وأن ينعكس حتماً على أحداث الساحل ويسهم في احتوائها وقطع الطريق على الاستثمار السلبي بهذه الاحداث من قبل بعض الدول الغربية، ويعينهم على لملمة المُصاب، وبعبارة أدق تجاوز ما سُمي انتكاسة خطيرة في مسار استعادة الوحدة الوطنية. لقد وصل التشاؤم أقصاه وسط ضخ هائل سلبي بصورة كارثية على مستوى التخويف من التقسيم، وحتى من الحرب الأهلية.
كانت قسد، والمكون الكردي عموماً، جزءاً مهماً من حملة التخويف (ومعهم المنطقة الجنوبية/المكون الدرزي/.. مع الاعتذار سلفاً عن الاضطرار لاستخدام هذه المصطلحات)، مجمل حملات التحريض كانت تتركز على أن الإقليم الكردي هو مسألة وقت فقط، وبعده الإقليم الجنوبي.. ويمكن القول إن هذا التحريض اكتسب زخماً مع اندلاع أحداث الساحل واستمراريتها، والتركيز عليها إقليمياً ودولياً، لتتصاعد مخاوف السوريين من أن ينعكس كل ذلك على مسار الانفتاح على دولتهم الجديدة التي ما زالت تتلمس طريق التعافي لتبدأ عملية البناء بإسناد إقليمي دولي هي بأمس الحاجة إليه، خصوصاً مسألة رفع العقوبات. لا شك أن أحداث الساحل كانت صادمة، وبما أثر عملياً على مسار الانفتاح. بدأت بيانات الاستنكار تتوالى وتطالب بالاحتواء وحقن الدماء. ولكن في الوقت نفسه بدا أن مسار الانفتاح مستمر وإن كان توقف قليلاً عند هذه الأحداث.
الاتحاد الأوروبي أعلن أنه وجه دعوة لوزير الخارجية أسعد الشيباني لحضور مؤتمر المانحين حول سوريا في بروكسل، في 17 آذار الجاري، وهذا مؤشر إيجابي.

 الاتفاق حتى الآن هو الخطوة الأوسع والأكثر ضرورة على مستوى التعافي الوطني الوحدوي باعتباره يقلب الطاولة على مشاريع التحريض والتقسيم ومن يقف وراءها

وسط كل ذلك، لم يكن لأحد أن يتوقع تحقيق اتفاق مع «قسد» باستثناء القائمين والمطلعين عليه طبعاً، رغم أن الأخبار المتداولة حوله كانت قائمة منذ أيام ولكن من دون تفاصيل، ومن دون ظهور ما يشي بإمكانية الاتفاق.

– إعادة قراءة
ومع إعلان الاتفاق، كان لا بد من إعادة قراءة المشهد السوري، بدءاً من أحداث الساحل نفسها:
سحب هذا الاتفاق فتيل استمرار حملات التحريض والتجييش في منطقة الساحل (وغيرها من المناطق السورية) وقلب الطاولة على رأس من يقف وراءها، وتالياً على من ينفخون في نار الفتنة والتقسيم.

حقن الدماء

كل اتفاق يتحقق بعيداً عن مفهوم العسكرة والعمليات العسكرية هو اتفاق تاريخي على مستوى حقن الدماء، دماء الجميع، على قاعدة أنه في أي عمليات عسكرية لا يمكن بالمطلق منع وقوع اعتداءات أو انتهاكات ستفضي حتماً إلى نتائج كارثية لأي عملية عسكرية مهما تكن النيات والأهداف وراءها جيدة.

عنصر المفاجأة في الاتفاق انسحب داخلياً وخارجياً وبما يفرض إعادة قراءة للمشهد السوري بمساراته التي ما زالت في بعضها مفاجئة وغير قابلة للتوقع

هذا الاتفاق يفتح الباب أمام مثيلات له في مناطق أخرى.
إعادة التأكيد على الحوار والتوافق، وعلى أن للقيادة الجديدة أولويتها في تغليب هذا المسار، وأنها قادرة على تحقيق النجاح واستعادة الثقة، وهذا قياساً إلى التحدي الذي كان يشكله المكون الكردي على مستوى الوحدة الوطنية والجغرافية (إلى جانب قدرتها على تأكيد القوة في التعاطي مع التحديات في حال استدعتها التطورات الميدانية).. وعلى اعتبار المساحة الجغرافية التي كان يشغلها (ثلث مساحة سورية) بكل ما تشكله على مستوى الأمن الغذائي والمائي، وأمن الطاقة.. وبغض النظر عن كل ما يُقال عن الأسباب الكامنة وراء جنوح المكون الكردي لتوقيع الاتفاق، فإن هذا لا يهم، بقدر ما يهم الوصول إلى هدف الاتفاق، ثم بدء التنفيذ منذ لحظة الإعلان عنه، والنتائج الكبيرة التي ستنسحب على كل سوريا.

– دبلوماسية الكواليس
الاتفاق يلقي الضوء على جانب مهم لدى القيادة السورية والرئيس الشرع، ويتركز على ما يسمى دبلوماسية الكواليس، أي العمل بعيداً عن الأضواء، وبكل ما يحتاجه ذلك من فن تحصيل المكاسب في إدارة الحوار والتفاوض والإقناع، مدعومة بقراءة صحيحة وعميقة للمشهد ربطاً بالإقليم وتداخلاته الدولية، والجميع يعلم أنه عندما يتم الحديث عن المكون الكردي فإن طرفين لا بد أن يكونا حاضرين حتماً وحكماً، وهما أميركا وتركيا. ومن هنا تأتي تاريخية الاتفاق. بمعنى أن التفاوض عملياً كان قائماً مع هذين الطرفين الإقليمي والدولي، إلى جانب المكون الكردي، وهو تفاوض صعب جداً، مع من يدعم، ومع من هو في حرب مع المكون الكردي.. وهذا يُحسب للرئيس الشرع قدرة واقتداراً على إدارة أصعب الملفات الداخلية.

ما يثبت مسار التفاؤل والثقة أن الاتفاق دخل حيز التنفيذ منذ لحظة إعلانه ويبدو أن خطوات التنفيذ ستكون متسارعة ومتسعة

هنا لا بد من التركيز على الطرف الأميركي، في سياق الاتفاق مع قسد وما يقرؤه المراقبون على مستوى موقف أميركي جديد، قد يفضي إلى انسحاب أميركي من مناطق الشمال، والشمال الشرقي. وإذا ما حدث هذا فهو يصب حتماً في تثقيل رصيد الرئيس الشرع داخلياً وخارجياً. وإذا ما حدث هذا فهو يعني تعاطياً أميركياً مختلفاً مع سوريا الجديدة بما يسهم في تسريع عملية الاستقرار والنهوض الاقتصادي، وقد يكون هناك اتجاه في المرحلة المقبلة لرفع أو تخفيف العقوبات الأميركية على سورية تدعيماً للمسار الأوروبي في هذا الشأن، وربما يكون الاجتماع الأوروبي المقبل في 17 آذار الجاري فيه شيء من الإشارات حول ذلك.

– قوة الدولة وضمانتها
من هنا، يتم التركيز على الجانب الاقتصادي في الاتفاق، حيث يمكن وصف المنطقة الشرقية من سوريا بأنه سلة المال والأعمال التي استعادتها سوريا الجديدة، وبما يعود بالازدهار والأمن الاقتصادي على جميع السوريين.

الاتفاق يقوي موقف الدولة ودورها وهذا ينعكس استقراراً في الداخل وتعزيزاً للمكانة في الخارج فلا يجعلها في موقف ضعف في أي مسار تفاوضي

الأهم.. هذا الاتفاق يقوي موقف الدولة ويظهرها بمظهر من يملك القول والفعل والقرار، وعندما تكون الدولة قوية فهذا ينعكس استقراراً على مستوى الداخل، ويعزز موقفها على مستوى الخارج، وتالياً تكون في موقع قوة في أي عملية تفاوض، وهو أكثر ما تحتاج إليه في هذه المرحلة، أن تكون في موقع قوة فلا تفرض عليها ضغوطات أو تنازلات من النوع الذي يهدد سيادة البلاد واستقلالية قراراتها.

– ترقب.. وتفاؤل
والأهم أيضاً.. مما يثبت مسار التفاؤل والثقة هو أن الاتفاق دخل حيز التنفيذ منذ لحظة إعلانه مساء أول أمس الاثنين، ويبدو أن خطوات التنفيذ ستكون متسارعة ومتسعة.. والنتائج ستكون كبيرة ومعممة بدءاً من الداخل.
في عملية الترقب وانتظار النتائج، يكاد الإقليم يتساوى مع السوريين. مع فارق كبير جداً بين من يريدون الخير للسوريين، وبين من يتربص بهم وببلدهم ويسعى لتكون نهباً للفوضى والاقتتال.

Leave a Comment
آخر الأخبار