الحرية – رنا بغدان:
كانت دمشق ولا تزال تجمع الأحبة المتوجهين بقلب واحد إلى بيت الله الحرام، فتبوأت عبر العصور مكانة هامة ومتميزة لكونها نقطة انطلاق “قافلة الحج الشامي” التي طبعت المدينة بطابعها الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي وحتى العمراني.. وقد رسم لنا المؤرخون لوحات ساحرة لحياة الدمشقيين ومناسباتهم، ولم يبخلوا بذكر أدق التفاصيل التي صوّرت ما كانت عليه دمشق في تلك الحقبة، وما البديري الحلاق ومحمد بن كنان الصالحي والمقار إلا بعض أولئك المصورين، أما الباحث أكرم حسن العلي فليس سوى أحد محققي المخطوطات ممن أخرجوها إلى النور ليضعوها بين أيدينا لتبقى دمشق تزدهي بزينات تودع بها حجاج بيت الله وتستقبلهم بها لتكون ملتقى لكل إنسان نادى بأعلى صوته: “لبيك اللهم لبيك”..
من هنا كانت دمشق وأسواقها وصناعاتها تعتمد اعتماداً كلياً على هذه القافلة وتعدها مورداً للعيش ابتداء من أول رمضان وحتى نهاية صَفر لأنها تزودها بالمعدات والألبسة والطعام والخدمات، حتى غدت هذه القافلة المعيار الحقيقي لنجاح السلطان أو فشله لأنها كانت تضم تحت لوائها حجاج الدولة العثمانية والعراق والعجم، وكان طريقها الذي يستغرق مئة يوم، شاقاً وطويلاً وخطراً، ما اضطر السلطان لتعيين والي دمشق أميراً للحج الشامي حكماً، وذلك بدءاً من عام (1120هـ) معتبراً نجاحه في عمله وحرصه وكفاءته في الحفاظ على أمن القافلة وحجاجها من أهم الأسباب لاستمراره في منصبه أو عزله، وكان يرافقها أو يدركها أثناء عودتها أو يسبقها مجموعة من الموظفين مهمتهم السهر على راحة الحجاج وتسهيل أمورهم، وكان للقافلة طابع احتفالي ارتبط بالحج المبارك والتهيؤ له.
الدورة
وهي أولى مراحل الحج وكانت تقام قبل الحج إعلاماً به وتحريكاً للاشتياق وإرهاباً للأعداء. فكان يتم إخراج المحمل والصنجق (اللواء) النبوي الشريف يحف به الأعيان والعلماء والعسكر والفرق الموسيقية وأصحاب الطرق وآلاف الناس ويمشون في موكب حافل حسب مراتبهم وينقدم الأمير أو نائبه المحمل بدءاً من منطقة السنجقدار متجهاً إلى الدرويشية فالسنانية فشارع البدوي فالشاغور فباب كيسان، فالباب الشرقي وصولاً إلى السرايا (قصر العدل حالياً) التي يستقر فيها المحمل والصنجق، وسط إنشاد المؤذنين.. ثم تعمل الضيافة العظيمة في إيوان السرايا، وفي هذا اليوم كانت العساكر كلها تجتمع في هذا الموكب وأهل دمشق كلهم من نساء وأطفال ورجال وشيوخ.
المحمل
تعود فكرته إلى القرن السابع الهجري في عهد الملك الظاهر بيبرس، على الأغلب، وهو صندوق هرمي الشكل، مغطى بقماش أخضر، مكتوب عليه آيات قرآنية، ويحمل على جمل أبيض مزين بأقمشة مزركشة ويتقدم موكب الحج، وقد استمر في دمشق حتى عام (1914م) ثم ألغي واستقر في متحف التقاليد الشعبية بوصفه أثراً من آثار الماضي، وكان يُطوى بعد الدورة وتوضع جميع حلّيه في صناديق مختومة إلى حين موكب طلوع الحج الشريف.
أمير الحج الشامي
كان أمير الحج الشامي مسؤولاً عن قافلة الحج بكل ما فيها طوال الطريق الذي يبدأ من جنوب المزيريب حتى مكة المكرمة نفسها والعودة منه، والتي أصبحت المعيار الحقيقي لنجاح السلطان نفسه أو فشله في ذلك الطريق الطويل والخطر لذلك خصصت (لأمراء العرب) على طول هذه الطريق مبالغ من المال عرفت بـ (الصّرّ) لتأمين سلامة الطريق وسلامة وراحة الحجاج وأصبح والي دمشق فيما بعد، حكماً، أميراً للحج الشامي يساعده في مهمته حامية عسكرية وموظفون يرافقون القافلة أو يدركونها أثناء عودتها نذكر منهم:
أمين الصّرّ؛ وكان من يوصل صدقات السلطان والأمراء إلى فقراء الحرمين الشريفين والأعيان والشرفاء والعلماء ومن إليهم، وكان يسمى (الصرة أميني).
أما السقاة فكانوا يسمون (السقاباشية) ومهمتهم تأمين المياه للحجاج في كل مرحلة، وهم يسبقون القافلة ويعدون البرك والآبار والأحواض لينهل منها الحجاج ويسقوا أنعامهم.
فيما حددت مهمة العكّامة بخدمة الحجاج، والحفاظ على أمتعتهم ومساعدتهم في الحل والترحال، والعناية بأمور الجمال وما إلى ذلك بحيث لا يقوم الحاج بأدنى جهد ويسهرون على راحة الحجاج. الجوخدار أو الجوقدار) ومعناه حامل الرسائل، الذي يبشر بسلامة الحج وكان يأتي برسائل الحجاج ويفرقها على أصحابها أمام مسجد (السنجقدار)، وكان الأهالي يتحلقون حوله بلهفة وشوق لاستلام رسائلهم.
أما المزيربتية فكان اسمهم يتكرر كثيراً، وهم الذين يرافقون القافلة حتى محطتها الكبرى على ضفاف بحيرة المزيريب، ويعودون إلى دمشق بأخبار الحجاج وتوصياتهم إلى أهلهم وذويهم.
و ننتهي مع أمير الجردة ويقصد بها النجدة السريعة التي توجه لتلقي الحجاج في طريق العودة وتقديم المأكولات الجاهزة والجافة مثل: الكعك والتين والحلويات. وتضم أيضاً مجموعة من العسكر لمساعدة الحجاج وحمايتهم عند الضرورة.