وجوه تأتي من عوالم قصيّة.. لمى مهنا والتميز بـ”تعبيرية شعبية حديثة”

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية- علي الرّاعي:

تأتي تجربة الفنانة التشكيلية لمى ناظم مهنا مفارقة في الكثير من تفاصيلها عن المشهد التشكيلي السوري.. أقولُ مفارقة، وذلك لغير سبب، وهو ما منحها خصوصية وأسلوباً بملامح خاصة كسبتها هذه المفارقة.
صحيح أن الكثير من هذه الملامح التي منحت خصوصية الأسلوب قد نجدها في تجارب تشكيلية موازية، غير أن استخدامها لـ”تكنيك” الملمح يعطيها مثل هذه الخصوصية والمفارقة.. منها على سبيل المثال: العفوية التي تشتغل عليها بطريقة تبعدها عن الفطرية، لتصير لعبتها الفنية الأثيرة، سواء في التهكم في “مسخ” الأبعاد لمكونات اللوحة، أو في تجاور تكاوين لا يمكن لها المجاورة لا من حيث الكائنات التي تجسدها ضمن إطارات اللوحة، ولا حتى في تجاور الألوان التي لا تراعي دراجاتها، ولا مزجها، وإنما تكاد تفرشها صرفة بكامل “الوحشية” على مدى البياض.. لوحات تقارب رسوم الكاريكاتير في تهكمها من جهة، ومن جهة أخرى تنافسُ رسوم الأطفال في عفويتها من خلال تلك التجاورات “السوريالية” سواء من حيث اللون، أو التشخيص..
وهي في كل ما تقدم؛ أعمال تأتي محاولة كاستعادة لما تمّ نسيانه عمداً: الوجوه التي حملناها في طفولتنا، الرموز القديمة التي عبرت الوعي الجمعي، والألوان التي تملك قدرة فطرية على الحوار.. أعمال تقترب من تخوم التعبيرية والرمزية، وتستعير من الفن البدائي حرارته، ومن الفن السوريالي حريته، ومن الفن الشعبي صدقه العفوي المتوحش.. لوحات لا تخجل من صراحة ألوانها أو خطوطها، وإنما سرد بصري مكتمل، ورواية شخصية بمخيلةٍ تتقاطع فيها الطفولة والحكاية الشعبية والذاكرة الأنثوية العميقة.

وجوه متعددة بهوية واحدة

تحضر الوجوه بشكلٍ متكرر: وجوه تطلّ من حواف التكوين، وجوه تتزاحم في خلفية المشهد، وجوه مستقلة أو ملتصقة بأجساد حيوانات، وجوه داخل وجوه.. هذه النزعة تُذكّرنا بفن الجداريات، أو بفنون الأقنعة الطقوسية في الحضارات الأولى.. وجوه ليست شخوصاً بقدر ما هي أصوات؛ حيث كلّ وجه يبدو كصوت داخلي، كذكرى، كحكاية محكية فوق نار هدأت للتو. وربما تحاول الفنانة ــ من خلال هذا الاصطفاف ــ أن تقول إن الإنسان ليس فرداً واحداً بل مجموعة وجوه وحيوات سابقة تتجاور داخله، تماماً كما تتجاور هذه الوجوه حول الشخصية المركزية.

المرأة مركز اللوحات

كما تظهر المرأة في أعمال مهنّا بوصفها المحور، وقلب التكوين، والعين التي ترى.. هي ليست مجرد حضور جمالي، بل سلطة رمزية: وجهٌ عريض، ملوّن ببشاعة جميلة، خطوط سميكة تشبه خطوط الجداريات القديمة، نظرات لافتة، وملامح تُصاغ بقوة أكثر مما تُصاغ بدقة.. المرأة في اللوحة ليست “موضوعاً”، بل “فاعلاً”؛ فهي الراوية، والحارسة، والصوت، والمكان.. ترى الأشياء، وتترك انعكاسها عليها، وتبدو أحياناً أكبر من محيطها كما لو أنها الأصل وما حولها مشتقات بصرية.. هذه المقاربة للأنوثة تُذكّر بحضور المرأة في الفن الشعبي والحضارات القديمة في المنطقة، حيث الأنثى رمز للخصب، والحماية، والحكاية، والأصل الأول للوجود.

الألوان العنف والاحتفال

ما يميز لوحات مهنّا أيضاً هو الاستخدام الجريء للألوان بكل صراحتها: الأحمر، البرتقالي، الأخضر النيون، البنفسجي الداكن.. ألوان لا تخجل من قوتها، بل تميل إلى المواجهة، وتخلق تناقضاً صارخاً بين الدفء والبرودة، بين العتمة والبهجة.. هذا التضاد اللوني ليس عبثياً، وإنما يحمل وظيفة نفسية: فالألوان هنا تصدم لتوقظ المتلقي من خموله، تجبره على رؤية ما هو قاسٍ، لكن بحلّة احتفالية، كأن الألم يتحوّل إلى كرنفال بصري.. وبقدر ما تبدو هذه الألوان غريبة، إلا أنها تحمل روح الرسم البدائي، وتستدعي طفولة اللون، تلك الطفولة التي لا تعرف الانسجام وإنما تعرف الحقيقة الخام.

الحيوان كروح مرافق

تظهر في الكثير من لوحات مهنّا حيوانات غير واقعية: طائر بألوان فاقعة، حصان يشبه حصان الأساطير، كائنات هجينة تشبه مخلوقات الحكايات الشعبية.. هذه الحيوانات ليست حالات زخرفية بل شريكة في الحكاية؛ إنّها “مخلوقات الذاكرة”، تلك التي ترافق الإنسان في سرديات الطفولة والموروث الشعبي.. ويُذكّر حضورها البارز بالرسوم السريالية التي تلجأ إلى الحيوان كرمز للغريزة والحدس والحلم.. لكنها هنا تتخذ طابعاً أكثر قرباً من البيئة المحلّية والخيال الشعبي.. فهي مخلوقات قد تكون هاربة من اللاوعي، وكذلك من الذاكرة الجمعية ومن قصص الجدات ربما.

الخطوط القاسية

وأمّا الخط في هذه الأعمال، فها هو الآخر حكايته، إذ تميل الفنانة إلى استخدام خطوط قوية، كثيفة، وغالباً سميكة، تعمل كأطر حادة حول الأشكال.. هذا التكوين يعيد إلى الواجهة فكرة التعبير البدائي؛ حيث لا سعي إلى النعومة أو الواقعية، بل إلى الصدق المباشر.. إنها خطوط تقول: “أنا هنا”، تماماً كما تقول الوجوه والعينان الواسعتان في كل لوحة.. تأتي العفوية كسمة أسلوبية تصنع للوحة شخصيتها، وتمنحها هوية واضحة يصعب الخلط بينها وبين أعمال أخرى.

الخلفية ليست خلفية

من اللافت في لوحات الفنانة أن الخلفية ليست مجرد مساحة لونية؛ بل مكان آخر للحدث.. سواء الخلفيّات الخضراء أو البنفسجية أو الصفراء، المشغولة بطاقة حركية مستمرة: ضربات الفرشاة واضحة، الألوان تتداخل بعنف وتُشكّل موجات، بحيث لا تسمح لفراغ هادئ، فكلُّ شيءٍ يتحرك.. هذه الحركة في الخلفية تُضفي طابعاً ديناميكياً على اللوحة، وتمنع العين من الاستقرار.. خلفية تصرخ مثل العناصر الأمامية، وكأن العالم كله ــ في أعمال الفنانة ــ يعيش تحت توتر دائم.

العالم كحكاية

لوحات مهنّا، رغم اختلاف شخوصها وألوانها، تنتمي إلى عالم واحد يشبه القصص المصوّرة؛ عالم مليء بالرموز: المرأة الأم الحارسة، الحيوان الروحي، العيون الواسعة، القمر والشمس كزخارف متكررة، الوجوه الصغيرة التي تذكّر بالأقنعة الجنائزية القديمة.. هذا العالم لا يُقرأ كلوحات منفصلة بل كـمشهد بصري واحد، كحكاية تُروى عبر أجزاء.. من هنا يُمكن القول: إنّ لوحات لمى مهنّا تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ “التعبيرية الشعبية الحديثة”: فهي ليست شعبية بمعنى الفنون التقليدية، وليست تعبيرية أكاديمية، بل هي مكان في المنتصف، حيث يأخذ الفنان من التراث روحه ومن الحداثة أدواتها.. واعتقد هنا مكمن أسلوبها الفني أو ذروة لعبتها الفنية، في هذا التداخل الذي يمنح العمل الطزاجة، ويجعل هوية الفنانة واضحة.

Leave a Comment
آخر الأخبار