الحرية- أحمد عساف:
عباس السلامي… أحد عشر ديواناً حصيلة عمر شعريّة، ومحطات إبداع تضيء دروب الكلمة قبل التوقف عند عتبة سؤالٍ وجودي ملحّ: “لِمَ الرأس دائماً في رهان؟”. هذا ليس مجرد عنوان لديوان، بل مفتاح لخيمة القصائد، ونافذة تطلّ على مناخ شعريّ يلفّ المجموعة بأسرها. بيد أننا لا نجد أي قصائد تحمل هذا العنوان. فقط ستمر علينا قصيدة بعنوان (رأس لا نبوءة فيه) يقول:” لو كانت رؤوسهم مضيئة، لما عشش فوقها الظلام! يا لتلك الرؤوس! .. يا لها من رؤوس مظلمة!”. ص 71
بالعودة إلى عنوان المجموعة (لِمَ الرأس دائماً في رهان) نجده يشي بهشاشة الوجود الإنساني الذي يعيش على أكفِّ المفاجآت، حين يمسي عالم اليوم بوابات موصدة بوجه الفرح. عالم علامته الفارقة الحزن السرمدي، والنواح على الأيام الخوالي. بينما تصور القصائد هذا (الرهان) الخاسر أحياناً.

شخصياً أعرف أن عباس لا يراهن على جياد خاسرة ولا على قصائد مهزومة، ولا يبحث عن قارئ مهزوم أو مأزوم. وأن بدت التيمة والسمة العامة للمجموعة الشعرية، الحزن بكل تجلياته وأبعاده، إلا أنه حزن غير عقيم، حزن خصب، يتجلى بوقار وأبهة قصيدة السلامي.
في قصيدة موسومة بـ(ابتسامة ربما تكفي) يقول:
“يا لتلك الأحزان! كم مرة توسّلتها أن نبتسم أولاً أن نعيد ترتيبنا، نجلس معاً لنتمرن على الفرح”.ص47 وهذا لا يمنع الشاعر من البحث عن فسحات للأمل، على أيقونة أيامه، ولو للحظات عابرة.” في خضم اليأس هذا.. يدور بنا أمل كسيح”
يرسم الشاعر عباس السلامي عالماً شعرياً قائماً على ثنائيات متضادة ومتنافرة: الأمل واليأس، الحياة والموت، الانفتاح والانغلاق، الضيق والسعة، البكاء والفرح. هذه الثنائيات بكل تجلياتها وجمالياتها وعذوبتها ووجعها، كّونت عوالم شعرية لا يمكننا المرور عليها مرور الكرام.
عالم الانزياحات
تمتاز قصائد الشاعر السلامي بروعة الانزياحات اللغوية، وأقصد بذلك أن تجاور الكلمات يخلق صوراً مبتكرة ويجعل التبادل بين الحواس في التعامل مع الواقع تبادلاً ذا جمالية آسرة وأخاذة. يقول في قصيدة هاجس: ” كلما رأيت طائراً يشدو في قفص/ تلمستُ في السر جناحي الضامرين. وتحسست صوتي لكيلا يسمعني أحد” ص 119
كذلك يحرص عباس السلامي على التوافق الحي بين الشكل والمضمون، وعلى البناء الدرامي للقصيدة بحيث يتفاعل المبنى والمعنى تفاعلاً عضوياً مثيراً للذائقة بامتياز.من قصيدة التفاحة يقول:
” على حدود الخديعة تمارسين دوركِ بمكر.. وأنتِ تدحرجين كوكبنا باتجاه الغواية”. ص56 .
كذلك سنجد أن تنوع وتناغم الانزياحات عند الشاعر متنوعة لكنها متناغمة كهارموني على سبيل المثال الانزياح اللغوي والصورة الشعرية، أقصد قلب المألوف، فعباس يتمتع بقدرة متميزة على خلق صور شعرية مفاجئة تعيد تشكيل العالم المألوف، كقصيدته “نافذة معلقة بسنارة الأمل” هذه الصورة استثنائية. فهي تجمع بين ثقل النافذة وخفة السنارة، وبين الواقع (النافذة) والمجرد (الأمل). إنها توحي بأن الأمل لعله هشاً، لا يحمل الوزن الحقيقي للواقع (النافذة)، ولكنه مع ذلك موجود. كما أن “التعليق” يوحي بالإرجاء والانتظار، وربما بالخداع، فالأمل قد يكون طعماً في سنارة لا أكثر.
طقوس للبكاء.. طقوس للموت
نجد تكرار مفردة الموت في الديوان كقوله:
“أساءت له الحياة كثيراً ربما سيكرمه الموت بعدها”.
” أوصدوا كل النوافذ والأبواب، وما تركوا له منها سوى تلك المشرعة على الموت”
من قصائده أيضاً نافذة معلقة بسنارة الأمل. هاجس الموت: من (الموت-الحدث) إلى (الموت-الحالة). تكرار مفردة الموت في الديوان ليس تكراراً كمياً بقدر ما هو تكرار نوعي. كما سنجد طقوس الموت في كثير من القصائد مثل: (بكاء)و (هو في صورة مختلفة) و(من يومياتي) وقصيدة:(كلما) هذه القصيدة الرائعة، وهي أطول قصائد المجموعة. يقول:
” أطرقُ الباب ما لأناملي، كلما لامسها الصرير.. أجهشت بالبكاء؟ “. ص 86
موقف وجودي
الموقف الوجودي للشاعر يتمثل في العزلة والاتساع، والعزلة القسرية في صورة إغلاق النوافذ والأبواب. والاتساع الذي يتوق إليه كملاذ يحلم به يتجلى في قصيدة (أشياء أحبها) يقول بعبارات تشكل نقيضاً تاماً للعزلة القسرية:
“أحب أن تكون غرفة نومي كبيرة… لاستيعاب أحلامي كلها”.
لا أزعم أنني بهذه القراءة أوفيت الشاعر حقه، بعدما سألت ذاتي كيف يمكنني سبر أغوار هذه المجموعة الشعرية المتميزة، والمسكونة بغواية التجسس على نبض القلب وأحلام الطفولة، والذاكرة الشغوفة بامتلاك لحظات الزمن الهارب، لغة حميمية، دافئة كليلة حب، شغوفة بعشق قديم، مشاكسة متمردة، نهلت من مخيال عباس السلامي الشعري الكثير، قصائد رغم حزنها الشفيف، استطاعت أن تحذف الأسى من أرشيف العمر وتعيد للقلب وردته المسروقة من زمن الطفولة الهارب.
وفي الختام يمكن قراءة المجموعة كقصة درامية واحدة. ( لِمَ الرأس دائماً في رهان) للشاعر عباس
السلامي تجربة شعرية صادقة وجريحة، قدمت رؤية وجودية للحياة بلغة محفورة من تجربة شعرية متميزة. وهي صادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق – 2023-129 صفحة من القطع المتوسط.