مربعانية الشتاء بين العلم وذاكرة الأجداد 

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحريةـ باسمة إسماعيل:

يشكل الانقلاب الشتوي محطة مناخية مفصلية في سورية، لا يقتصر أثرها على الحسابات العلمية فحسب، بل تمتد جذورها عميقاً في الذاكرة الشعبية التي صاغت تقويماً مناخياً دقيقاً، ما زال حاضراً في حياة الناس وأمثالهم حتى اليوم.

معرفة مبكرة بقوانين الأرض والمناخ

على مدى آلاف السنين، اعتمد السوريون، ولا سيما المزارعين، على الخبرة المتراكمة ومراقبة الطبيعة في فهم تعاقب الفصول وتقلبات الطقس، وكانت هذه الذاكرة الشعبية بمثابة المدرسة الزراعية الأولى، التي قدمت للبشرية معرفة مبكرة بقوانين الأرض والمناخ.

وتبرز “المربعانية” بوصفها أحد أهم مفاصل هذا التقويم الشعبي، إذ تمتد أربعين يوماً من 22 كانون الأول حتى نهاية كانون الثاني، وتعرف ببردها القارس وأمطارها الغزيرة وأوحالها الثقيلة، حيث شبه أجدادنا في الساحل السوري مَن كانوا يتضايقون منه بأنه مثل طين الشتاء.

الأمثال تحكي قصة المربعانية

وقد عبر الأجداد عن قسوة هذه الفترة بأمثال لا تزال متداولة، منها: “لولا الشتي ما شفنا صيف هني”، “أطول من ليل الشتي”، “الشتي شدة”، “إذا أتلجت أفرجت”، و”بكانون كن ببيتك وكثّر حطبك وزيتك” و”بعيد الميلاد بيولد البرد ولادة” و”كانون الأجرد بيخلي الشجر أمرد” و “الدفا عفا ولو كان بعز الصيف”،

كما اختصروا تقلبات المربعانية بقولهم: “يا بتربّع يا بتقبّع”، تعبيراً عن تقنياتها الشديدة، و”يا شمس تحرق يا مطر بيغرق” و”يا رب نجنا من نزلة المربعانية” دعاء للوقاية من الأمراض.

هذه الأمثال تعكس خبرة الأجداد في متابعة تقلبات الطقس، وتأثيرها على جميع نواحي الحياة.

الإعلان الرسمي لبداية الشتاء

فلكياً، تبدأ ذروة الشتاء مباشرة بعد يوم الانقلاب الشتوي، الذي يصادف 21 كانون الاول، حيث يعد أقصر نهار وأطول ليل في السنة. وفي هذا الإطار، أوضح الدكتور رياض قره فلاح، أستاذ المناخ في جامعة اللاذقية، في حديثه لـ”الحرية”، أن التوقيت الدقيق للانقلاب الشتوي هو يوم 21 كانون الأول، وقد صادف هذا العام يوم الأحد عند الساعة 9:03 مساء بتوقيت دمشق، وهو الإعلان الفلكي الرسمي لبداية فصل الشتاء في نصف الكرة الشمالي.

الشمس بأقصى نقطة في مسارها

وأضاف الدكتور قره فلاح: يحدث الانقلاب الشتوي عندما تصل الشمس إلى أقصى نقطة جنوبية في مسارها السنوي، حيث ترتفع فوق الأفق 32 درجة تقريباً، ويحدث نتيجة ميلان محور الأرض بمقدار 23.5 درجة، ما يؤدي إلى أقصر نهار في السنة وأطول ليل، مع انخفاض زاوية سقوط أشعة الشمس وضعف قدرتها على التدفئة.

وأشار إلى أن طول النهار يبدأ بالازدياد التدريجي بعد اليوم التالي للانقلاب، بزيادة غير محسوسة أولاً ثم متسارعة، ليصل بعد شهر إلى زيادة تتراوح بين 35 و40 دقيقة في طول النهار، وبحلول شهر شباط النهار يطول بمقدار ساعة و45 دقيقة عن أقصر يوم.

انعكاسات مباشرة على الحياة اليومية

وبيّن د. رياض أن قوة المنخفضات الجوية تشتد في هذه الفترة فوق شرق المتوسط، يرافقها اضطراب بحري وارتفاع في الأمواج قد تصل إلى 3-4 أمتار، إضافة إلى رياح قوية واحتمالات تشكل الجليد والضباب، وانعكاسات مباشرة على الحياة اليومية، أبرزها زيادة استهلاك الطاقة وتغيّر أنماط النشاط والنوم.

نقطة تحول إيجابية

وأكد الدكتور قره فلاح أن الانقلاب الشتوي من الناحية النفسية والثقافية، على الرغم من قسوته المناخية، نقطة تحول إيجابية، إذ يبدأ النهار بالطول من اليوم التالي، وتعد هذه المرحلة تقليدياً بداية المربعانية أبرد فترات العام، وفلكياً انطلاق رحلة الشمس الظاهرية شمالاً نحو الربيع.

ولفت إلى أن فصل الشتاء يستمر 89 يوماً، وينتهي في 20 آذار 2026 مع موعد الاعتدال الربيعي.

تمضي دائماً نحو التوازن من جديد

بين حكمة الأجداد ودقة العلم، يبقى الانقلاب الشتوي علامة فارقة في الذاكرة السورية، يعلن بداية أقسى أيام البرد، لكنه في الوقت ذاته يحمل وعداً خفياً بطول النهار واقتراب الربيع، مؤكداً أن الطبيعة، مهما اشتدت، تمضي دائماً نحو التوازن من جديد.

Leave a Comment
آخر الأخبار