الحرية – نهى علي:
انخفضت أسعار السلع في الأسواق السورية بعد التحرير، بمعدلات لم تكن متوقعة، وصلت لأكثر من 50% بالنسبة لبعض السلع، وبات التساؤل ملحّاً عن أسباب الارتفاعات الجنونيّة السابقة.
أحد أبرز الأسباب كانت منصّة تمويل المستوردات التي تم ” اختراعها” في مصرف سوريا المركزي، وتحوّلت إلى أداة ابتزاز للتجار وبالتالي للمواطن، من خلال لجوء التاجر إلى تحصيل مادفعه من ” إتاوات” من المستهلك النهائي للسلعة.
فكيف كانت آلية عمل ” المنصّة” سيئة الذكر.. وكيف دفع كل السوريين ثمن ذلك ” الارتكاب” بكل معنى الكلمة ؟؟
• د. قوشجي: عملت المنصة على جمع أموال التجار والصناعيين بالليرة السورية مقابل وعد بتحويلها إلى دولار أمريكي لتمويل مستلزمات الإنتاج المستوردة
عائق هيكلي بغيض
يرى الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، أن ثمة عوائق هيكلية عميقة تسببت بها المنصّة، أي تشوهات متشعبة الآثار.
ويقول في حديث لصحيفتنا ” الحرية”: أنشأ النظام السابق منصة مركزية لتمويل المستوردات بهدف تحصيل الأموال وإدارتها، غير أن تصميمها أدى إلى عوائق هيكلية أعاقت النشاط الاقتصادي في سوريا.
فبالنسبة لآلية عمل المنصة ومخاطرها ..عملت المنصة على جمع أموال التجار والصناعيين بالليرة السورية مقابل وعد بتحويلها إلى دولار أمريكي لتمويل مستلزمات الإنتاج المستوردة.
إلّا أن سعر الصرف لم يُحدد إلّا عند اكتمال عملية التحويل بعد أشهر من الإيداع، ما عرّض المستوردين لتقلبات حادة في سعر صرف الليرة خلال فترة الانتظار.
ولضمان توريد البضائع في الوقت المناسب، اضطر التجار إلى دفع قيمتها مرتين: مرة للمورد الأجنبي مباشرة (بسعر السوق الفوري)، ومرة للمنصة بالليرة السورية، ما أدى إلى رفع تكاليف الاستيراد بنسب تجاوزت الضعف في حالات عديدة.
• د. قوشجي: تسببت المنصّة بجملة من التأثيرات التضخمية والانكماشية في السوق والاقتصاد السوري..وارتفاع متسارع في أسعار السلع النهائية نتيجة تضاعف تكاليف الإنتاج
آثار تضخمية
تسببت المنصّة بجملة من التأثيرات التضخمية والانكماشية في السوق والاقتصاد السوري، وأسفرت هذه الآلية – وفقاً للدكتور قوشجي – عن ارتفاع متسارع في أسعار السلع النهائية نتيجة تضاعف تكاليف الإنتاج. كما أدى تجميد كميات كبيرة من الليرة السورية في حسابات المنصة لفترات مطولة إلى انكماش حاد في السيولة النقدية المتداولة، ما أدى إلى فجوة بين العرض والطلب وأسهم في ارتفاع غير مسبوق بمعدلات التضخم.
وفي الجانب الإنتاجي، تسبب شح السيولة وتعقيدات التمويل في شلل جزئي لدوران رؤوس الأموال في الاقتصاد السوري، فأُعيق النشاط الصناعي والتجاري وظهرت مؤشرات انكماش اقتصادي واضحة.
• د. قوشجي: الأزمة تفاقمت مع سياسات المصرف المركزي السابقة التي استنزفت الاحتياطي الأجنبي
زعزعة الثقة المصرفية
على المستوى الإستراتيجي.. خلّفت المنصّة تداعيات كبيرة وكان فقدان الثقة بالقطاع المصرفي إحدى النتائج التي لن تكون من اليسير إزالتها خلال فترة قصيرة.
وهنا يوضح الخبير المصرفي أنّ الأزمة تفاقمت مع سياسات المصرف المركزي السابقة التي استنزفت الاحتياطي الأجنبي، عبر بيعه المباشر للمواطنين بأسعار مدعومة (ابتداءً من 10,000 دولار ثم 5,000 دولار بسعر 550 ليرة / دولار).
وقد أدى تجميد حسابات القطع الأجنبي في المصارف وسحب سيولتها إلى تآكل الثقة في الجهاز المصرفي الرسمي، ما حفز انتشار التعاملات الموازية وعزز هروب رؤوس الأموال.
تلاعب مباشر
ولا يمكن أن نغفل النتائج المترتبة على صعيد إشكاليات الشفافية والمستفيدين .. فالدكتور إبراهيم قوشجي يشير إلى افتقار آلية تحديد سعر الصرف في المنصة للشفافية، فلا يحدد سعر تبديل الليرات السورية إلّا عند التنفيذ فقط، ما سمح باحتمالات التلاعب لصالح جهات نافذة مرتبطة بالنظام السابق، حصلت على العملة الصعبة بأسعار تفضيلية أو استفادت من مضاربات فروق الأسعار.
كما استغل وسطاء ماليون ومحتكرون حالة عدم اليقين والفوضى السعرية لتحقيق أرباح غير مشروعة عبر احتكار السلع الأساسية.
استدراك واجب
يرى الخبير المصرفي د. قوشجي، أنّ إلغاء المنصة خطوة ضرورية لفك الاختناقات النقدية وتحفيز النشاط الاقتصادي، و تحقيق استقرار نسبي بالأسعار.
بيد أن الضرر البنيوي العميق الذي لحق بالاقتصاد يتطلب – برأيه – إصلاحاً هيكلياً يعيد بناء الثقة في القطاع المصرفي، ويؤسس لآليات تمويل شفافة، ويعزز احتياطيات العملة الصعبة، ويضع سياسة نقدية قائمة على معايير واضحة وقابلة للتنبؤ.
الحلاق: إلغاء منصة تمويل المستوردات كان له دورٌ كبير في تخفيض الأسعار
تدخلات سافرة
من الرأي الأكاديمي.. إلى الرأي العملي من وحي الوقائع والمعاناة المباشرة.. سألت” الحرية” رجل الأعمال محمد الحلاق عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق سابقاً.. عن تفاصيل كثيرة بشأن المنصّة سيئة السمعة والصيت.
ليؤكّد أن إلغاء منصة تمويل المستوردات كان له دورٌ كبير في تخفيض الأسعار، لأن مبرر وجودها تأمين القطع الأجنبي بسعر أرخص من السوق في وقت وصل فيه سعر صرف الدولار إلى مابين (3500- و4500) في وقتها باعوا الدولار بحوالي (2700 ليرة ) مايعني أنه كان من المفروض أن تسهم في تخفيض سعر الدولار لجذب الحوالات القادمة من الخارج، والسيطرة على أسعار الحوالات، لكن فيما بعد نتيجة فقدان الثقة والمصداقية ووجود تشوهات كبيرة بالاقتصاد لمصلحة قلة من المستفيدين والكثير من المتضررين وتدخل الأمن” المخابرات” بالموضوع. والنتيجة كانت إفشال الاقتصاد .. فالاقتصاد لا يقاد بالعصا حسب تعبير الحلاق.. وعندما يُراد إفشال الصناعة والتجارة يتم إدخال الأمن” المخابرات” إليها، وهذا لا يتفق مع ضرورة وجود ضوابط و قواعد وتشريعات وأسس ورقابة تنظم سير العمل الصناعي والتجاري، وهذا الواقع أفضى إلى تشوهات بالاقتصاد.
يشرح الحلاق: سابقاً كانت الفواتير مخفضة لحد 20 إلى 30 بالمئة و أحياناً 60 إلى 70 بالمئة من القيمة، فيما البقية يتم تسديدها عن طريق مصادر خارجية.
• الحلاق: تدخّل”المخابرات بالمنصة والعمل التجاري والتصدير أفشل الاقتصاد السوري وكبّد المواطن خسائر كبيرة
تشويه بنية العمل التجاري
الأخطر من وجهة نظر الحلاق.. أنه تم التدخل بالصادرات وتم تشكيل ما يسمى تعهد تصدير على أن يتم تسليم المصدر50 بالمئة والقيمة الأخرى خارجية، معتبراً أن كل ذلك شوّه الاقتصاد وأدى لارتفاع الأسعار .
ورأى أن المرحلة الأكثر تشوهاً في عمل المنصة، عندما يقوم التجار بتسلم الأموال للمنصة ولكن الأخيرة تتأخر عن دفعها للجهات الواجب التسديد لها في الخارج، وعمدوا إلى جدولة من شهر إلى شهرين والمماطلة بحجة أيام العطل، ما يعني تأخر الدفع والإخلال بالالتزام، وبالتالي تضرر رأس المال والتعرض للخسارة بحرمانه من تعدد دورانه وتقلبه خلال العام.
وسرد الحلاق مثالاً عن دورة رأسمال مادة الرز التي من المفترض أن تكون سرعة دوران رأس المال فيها مابين ثلاث إلى أربع دورات في السنة، وبالتالي نجد أن النسب الربحية على هذه المادة وغيرها من المواد الغذائية الأساسية ضعيفة أو قليلة، حيث يضع التاجر نسبة أربعة إلى خمسة بالمئة مضروبة بأربعة، و هذا يعدّ رقماً جيداً يشكل إضافة، بينما يختلف الأمر بالنسبة للسلع أخرى كالآلات الصناعية والسيارات، فسرعة تداولها بطيئة لذا تكون ربحيتها عالية ممكن أن تصل إلى عشرة خمسة عشرة أو عشرين بالمئة، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، والنتيجة نفسها عندما يتدخل الأمن ” المخابرات” في الاقتصاد وتنجم عنها فواتير باهظة وغرامات عالية يضطر التجار لدفعها نتيجة الإجراءات القسرية التي كانت سائدة في زمن النظام السابق.
وكل تلك الإجراءات تسببت بزيادة الأسعار بنسبة لا تقل عن ثلاثين بالمئة، في الوقت نفسه هناك من استفاد وحقق وفورات وآخرون تضرروا لأن ثمة تشوهات أوجدت سوقاً احتكارية.
• الحلاق: المنصة والتلاعب رفعا الأسعار تباعاً وأصبح الناقل الذي يستورد البضاعة يتكبّد عمولات كبيرة
ابتزاز
يلفت الحلاق إلى التلاعب في المنصة من خلال الدور.. فالبعض حوالاتهم تمر عبر المنصة بسلاسة لأنهم كانوا يقدمون عمولات، بينما آخرون حولاتهم تتعثر لأنهم يمتنعون عن دفع العمولات ” الإتاوات”.. وبدأت الأسعار ترتفع تباعاً وأصبح الناقل الذي يستورد البضاعة يتكبّد عمولات كبيرة، فلو كانت تكلفتها 100 ألف دولار مثلًا، سيطلب حوالي 140 ألف دولار، وبالتالي سيدفع 40 بالمئة زيادة على سعر بضاعته، وبالتالي ستنعكس هذه النسب على سعر السلعة في بالأسواق بعد الإضافات من تكاليف الجمرك والتحوط، وبالتالي أسعار وأرقام مشوهة غير حقيقية نتجت عن بيئة عمل فاسدة، تراجعت معها القدرة الشرائية للمستهلك.. بالتوازي مع تراجع قيمة العملة السورية بعد أن تراكمت الأموال وساد الاحتكار لحساب فئة قليلة من التجار، على حساب شريحة أخرى انسحبت من السوق فتحولنا إلى سوق احتكارية من دون وجود احتكار .
هجرة وهروب
يوضح عضو مجلس غرفة تجارة دمشق أن آثار التلاعب بالمنصة كانت جلية، من خلال هجرة الكثير من التجار والصناعيين وأصحاب الكفاءات ليصل عدد الفعاليات التي أغلقت إلى 50 ألف فعالية تجار وغيرهم من بعد العام 2020 ما يعني أن البلاد تكبدت خسارة نوعية وليست كمية، وهناك 5 بالمئة من أصحاب رؤوس الأموال، خرجوا بداية الثورة لكن بعد العام 2020 خرج القسم الأكبر من أصحاب الأموال والفكر.
يختم الحلاق بإشارة مهمة إلى المستفيدين من المنصة.. ويشير إلى من هم في الحكومة بمستويات كبيرة، والوصوليين والانتهازيين و السماسرة، وبالدرجة الأولى من هم في القصر الجمهوري وفروع المخابرات، فالمنصة كانت جزءاً من مشهد لمرحلة تشوه حقيقي وبنيوي في الاقتصاد السوري.
اقرأ أيضاً: