من رأس المال الاجتماعي إلى هرَم ماسلو: فنون تدجين السعادة!

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية_ حنان علي:

لطالما ظننتُ أنني أتقنتُ طقوس البهجة، كما يُتقن الطفل خُطاه الأولى في ساحة الضوء، حتى ذلك اللقاء الذي جمعني بصديقة بوتانية في إحدى الجامعات، حين أزاحت بكلماتها ستارًا عن فكرة مدهشة: “السعادة ليست لحظة، بل عادة تُصقل كما يُصقل الذهب، وتُروى كما تُروى الأشجار؛ بالوعي والمثابرة وتبديل زاوية الرؤية.”

سعادة قومية

لعلّ جوهر الفكرة يتكشّف فيما يُعرف بفلسفة «السعادة القومية الإجمالية»، حيث لا يُقاس الازدهار بالأرقام والرسوم البيانية وحدها، بل بنقاء الروح الجماعية ورفاه النفوس. ففي بوتان، لا تنفصل السعادة عن حضن الطبيعة، ولا تُختصر في إنجازات فردية أو ممتلكات مادّية؛ بل تُبنى على رفاه الآخر، على أن تُنشأ بيئة متناغمة تُربّي الفرح كما يُربّى الطفل في دفء الجماعة.

رأس المال الاجتماعي

إبان رحلتي الفكرية التي ناقشت مفهوم السعادة الجماعية، وقفتُ مطوّلًا أمام نظرية «رأس المال الاجتماعي»، حيث السعادة ليست مجرد شعور داخلي، بل انعكاس حميمي للعلاقات الوثيقة والثقة المتبادلة، وللتماسك القائم بين أفراد المجتمع الواحد. ويمتدّ البُعد الفلسفي أكثر حين نستدعي تجارب قياس السعادة عبر مؤشرات تتخطى العوائد المادية، لتطول عمق النفس البشرية: من استدامة التنمية، إلى صون الثقافة، إلى الحُكم الرشيد، وبلوغ حالة من السلام الداخلي تُحتَسَب ضمن رفاهية النفس.

البهجة لا تُترك لمزاج الفرد، بل تُنظّم كموروث وطني، وتُقاس كالثروات

التأقلم مع المتع

لكنّ النفس البشرية، في تقلباتها، لا تثبت على حال. وهذا ما توثّقه «نظرية التأقلم مع المتع»، التي تشير إلى ميل البشر للعودة إلى حجر الأساس من السعادة، مهما تبدّلت ظروفهم. فالتحسينات قد تُفرِح للحظة، لكنها لا تضمن دوام البهجة. إلا أن هذه الثغرة، تُجابَه بنظرية «نهج القُدرَة» لأمارتيا سين، والتي ترى أن الرفاه الحقيقي لا يتحقق إلا حين يُتاح للإنسان أن يُنمي قدراته بحرية؛ من خلال التعليم، والرعاية، والكرامة، والاختيار، وأن يعيش حياة يرضاها، لا يُفرض عليه قالبها.

حتى أجمل الأوقات تنطفئ إن لم ندرّب وعينا على ملاحقتها

مرآة الذات

قد يُخيّل إلينا أن السعادة تولد من داخلنا، من أعماق الذات، دونما حاجة لتعريفات. ومع ذلك، فقد أنارت نظريات شتّى بعض أركانها الخفية. تبدأ من نظرية «المتعة»، حيث السعادة تكمن في السعي وراء اللذات وتجنّب الألم، ذلك بمحاولة تضخيم اللحظات الإيجابية وتقزيم السلبية منها. ثم نجد نظرية «الرفاهية الذاتية» التي تقيس السعادة بمِكيال الرضا الشخصي، ومدى اتفاق حياة الإنسان مع قيمه الداخلية وتصوراته عن المعنى.

تقرير المصير

ولعلّ أعذب أشكال السعادة ما يتجلّى حين يكون الإنسان سيّد قراره، مالكًا لزمام حياته. وهذا ما تُبرزه نظرية «تقرير المصير»، التي ترى أن الكفاءة، والاستقلالية، والانتماء، هي مفاتيح باب الفرح الحقيقي. وقد جمع مارتن سيليجمان كل ما سبق في نظريته عن «السعادة الأصيلة»، مؤكدًا أن المتعة وحدها لا تكفي، بل يجب أن تقترن بالمشاركة الفعالة في أنشطة تمنح الإنسان حالة من التدفق والنسيان، ثم تُتوّج بحياة ذات مغزى، تنسجم مع جوهره وتُبرز أفضل ما فيه.

هرم ماسلو

وإن اختلف الناس في تصوّراتهم للحاجات، فقد رتّبها ماسلو في «هرم» يتسلّق درجاته الإنسان من أساسيات البقاء، إلى ذروة تحقيق الذات. فالسعادة، وفق هذا التصور، ليست قفزة، بل سلّم، تُبنى على أرضية الطعام، والمأوى، والأمان، ثم ترتفع نحو التقدير، والإنجاز، والمعنى.

الثقة ،التعاون، والانتماء قيم أخلاقية، ومقاييس علمية لقياس السعادة

لغز أبدي

كل تلك النظريات ما هي إلا محاولات للاقتراب من لغزٍ شخصيّ، نسمّيه السعادة. وإن كانت التعاريف كثيرة، فالخبرة تظلّ فردية، والبهجة لا تُستعار، بل تُكتشف، كلٌّ منا بطريقته.
وقبل أن أضعُ النقطة الأخيرة بكلمات غاندي : «نبحث عن السعادة بعمق، ثم نجدها في أبسط الأشياء». أنطلق لأفتّش بين مفردات السعادة كما تصفها ابنة “تنين الرعد”؛ من الامتنان واليقظة، إلى الرعاية الذاتية ومساعدة الآخرين، حتى يخيّل إليّ أن السعادة ليست إلا فلسفة خفيفة تُدمن كغاز الضحك، تُحلّق بنا نحو خفةٍ لا تلامس الأرض، وفرحٍ لا يشبه الاعتياد.

اللوحة بعنوان “في زمن التناغم”  للفنان التشكيلي الفرنسي بول سينياك (1863 – 1931)

Leave a Comment
آخر الأخبار