الحرية: لبنى شاكر
لا تُعير إلهام جبور بالاً للآراء التي تنتقص من شأن اللوحة التزيينيّة، وعلى حد تعبيرها أيّاً كانت اللوحة فهي ستكسب في النهاية صفة التزيين وتكملة الديكور، غير أن اقتناءها بدايةً وقبل الحكم عليها، جاء بلا شك من حبٍّ لها، وهنا بيت القصيد، الذي يتجاهله البعض عن وعي، انحيازاً للتجريد وامتهاناً لِما سواه.
تحرص جبور على أن تكون أعمالها واضحة ومفهومة، وبعيدة عن إشكاليات التأويل والتوقعات
بهذه البساطة والأريحيّة، لا تتردد جبور في القول “أرسم لأسعد نفسي وأُرضيها، من وَجَدَ في لوحتي الشعور نفسه، فقد زادني سعادة، ومن لم يجد فهو حر”، ويبدو أن مردّ هذا الإعلاء والوضوح، ما تضعه التشكيلية من ذاتها في أعمالها، تقول “أرسم بأعصابي… بروحي، اللوحة تأخذ مني كل هذا، شيئاً خفياً لا أعرف ماهيته، يسير مع اللون والريشة، الأمر يخصني أولاً وأخيراً”.
“اشتغلتُ بالاتحاد النسائي أعواماً… كانت غايتي تعزيز مكانة النساء والعناية بهن لكن التخلف كان أقوى منا”
من الأثير إلى اللوحة
خلال دراستها الجامعية، توجهت جبور إلى العمل الإذاعي فقدمت عبر إذاعة حلب عدداً من البرامج من بينها (ركن المرأة)، (طريق الحياة)، (كلمة ولحن)، ومن ثم بدأ مشوارها التشكيلي مُتأخراً نوعاً ما، أو لنقل إنه كان محكوماً بالظروف، اتكأت فيه على موهبةٍ دعمتها بدراسة خاصة مدة عامين، فالرسم كما تصفه “علمٌ أيضاً”، لا بدّ من معرفة مبادئه الأولى، كالمنظور والقياسات والأبعاد، تحديداً المتعلقة بالوجه والجسد، إلى أن أصبح في رصيدها مشاركاتٌ في معارض جماعية في إسبانيا، وستة عشر معرضاً فردياً بين دمشق وحلب، من بينها “الأمل” في المركز الثقافي في أبو رمانة، عرضت فيه حوالي 43 لوحة. تُضيف “يُقال إن إنتاجي غزير، حقيقةً لا أرسم بانتظام، أحياناً أرسم يومياً وفي أوقات فراغي، أمارس بعض الأعمال وأراقب لوحتي، أعود إليها لدقائق وأنصرف مجدداً، أرسم على مهل ..ببطءٍ ربما”.
بين الأصالة والحداثة
لا تُنكر التشكيلية تأثرها بتراثها الشرقي الغني، لكن بطريقة عصرية تخلط الأصالة بالحداثة. وهي ترى أن الفنان الحقيقي هو من يستطيع أن يمتلك أدوات عصره دون أن ينقطع عن جذوره، فهذه الجذور هي التي تمنح العمل الفني هويته وتمايزه، لكنها في أعمالها الأخيرة، تبتعد عن شواغلها الأولى بالحارات القديمة في المدينتين الأم دمشق وحلب، حيث الطابع المعماري القديم لما بتنا نعده اليوم آثاراً، يحضر بقوة، تقول: “حاولت التنويع أكثر، قدّمت مواضيع أخرى، مزجتها مع الزخارف والمنمنمات، هذه لوحتي التي أنتمي لها، دونما تخطيطٍ وبتلقائية، أجد نفسي معنية بهذه الجزئيات، الزخرفة بأشكالها الهندسية والنباتية والحيوانية، جزءٌ من حكايتي”.
المرأة والورود
تدمج جبور بين الأسلوبين التجريدي والواقعي، مع حرصها على أن تكون اللوحة واضحة ومفهومة، وبعيدة عن إشكاليات التأويل والتوقعات، وفي معظم أعمالها كانت الورود حاضرة، تقول: “رسمت ورودي بروحي وخيالي، لم أضع وردةً لأنقلها.. أبداً”، كما كانت المرأة محوراً يدور حوله كل ما سواه، ففي إحدى اللوحات مثلاً هي الغابة والمدينة معاً، وفي أخرى هي الراعية والداعمة، تستكين على كتفها حياةٌ كاملة، وفي ثالثة استحال ذراعها إلى جناحي فراشة، وفي هذا كلّه كانت الخطوط والنقاط والدوائر تصطف ببراعة وتناسب لافتين، تشرح عن اختياراتها: “المرأة مظلومة ومُنتهكة الحقوق والكرامة في مجتمعاتنا، اشتغلتُ بالاتحاد النسائي أعواماً، كانت غايتي تعزيز مكانة النساء والعناية بهن، لكن التخلف كان أقوى منا”.
لغة الزخرفة والألوان
التشابك والتناظر والتوازن، والعديد غيرها من خصوصية الزخرفة ملحوظة في أعمال التشكيلية، والتي تجعل من كل لوحة ميداناً للتأمل والتقاط المزيد من الاشتغال على التفاصيل متناهية الصغر، ومن ثم ينسحب هذا الاهتمام على الألوان، فهي تلجأ إلى المتناقضات أحياناً لتخلق تناغماً غير متوقع، كونها تجد في اللوحة كائناً حياً، ينمو تدريجياً، وتتشكل طبقة فوق طبقة، حتى تصل إلى ذروة تعبيرها، توضح جبور: “التمعّن في الشكل لا يجافي اللون، أحب الألوان التي تبعث شيئاً من البهجة في النفس، وفي لوحاتي استخدمت الإكريليك والزيتي، والكثير من تدرجات اللون الواحد”.
تجديد مستمر
تعترف جبور بأنها تستمتع بتحدي ذاتها في كل لوحة جديدة، فهي لا تحبذ الركود أو تكرار نفس النمط. هذا الدافع الداخلي هو ما يجعل مجموعاتها الفنية متجددة، رغم احتفاظها بخيط ناظم يميزها، وهي ترفض فكرة الفن “المُسيّس” أو الذي يخضع لموضة عابرة، مؤكدة أن صدق التجربة الشخصية هو ما يضمن للعمل الفني بقاءه، ومن هنا تصوغ علاقتها مع جمهورها بناء على المشاركة الوجدانية أكثر من قيامها على الشرح والتفسير، فهي تقدم عملها قطعة مكتملة، لكنها تترك للمتفرج حرية اكتشافها.