الحرية – مركزان الخليل :
نعم حقيقة لا يختلف عليها اثنان حول الاقتصاد السوري، “القوة الاقتصادية الكبرى في العالم” لأنه متنوع في الموارد، ومتعدد مصادر الطاقة، والأمر الآخر القوة البشرية العاملة في هذا التنوع، كل ذلك يشكل القاعدة الأساسية، والحامل الأكبر لأي اقتصاد بغض النظرعن ماهيته وتركيبته، وحتى اتجاهه.
وبالتالي هذا التنوع الذي يحظى به اقتصادنا الوطني لو استثمر كما ينبغي استثماره، لكان من أفضل الاقتصادات العالمية، ومن أفضل مستويات الدخل أيضاً، وهذه مسألة لا يمكن تجاهلها، وخاصة أن إدارات العقود الماضية فشلت في استثمار هذا التنوع، والوصول به إلى اقتصاد قوي يحمل في طياته كل مضامين هذا التنوع، واليوم نتحدث عن مكون واحد، يشكل أهمية بالغة في الإنتاجية الوطنية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية ” الثروة الغنمية” وهنا نتوقف للحديث عنها مع المهندس عبد الرحمن قرنفلة الخبير في الإنتاج الحيواني والذي أكد في لصحيفة “الحرية” عدة حقائق أساسية عن هذه الثروة الغنية بمواردها، أنها ليست مجرد مصدر للّحم والحليب والصوف، وليست مجرد مورد رزق لعدد كبير من الأسر البدوية التي تتنقل مع قطعانها في البادية السورية، وللعاملين في السلاسل التسويقية لمنتجات الأغنام، وليست مورداً مستمراً للقطع الأجنبي فحسب، بل هي ثروة وطنية متجددة لا تنضب..!
خبير: تهميش متعمد من الحكومات السابقة وترك الباب على مصراعيه أمام التهريب
موطن الأغنام
وقبل الحديث عن هذه الثروة، استعرض الخبير قرنفلة بيئتها الأساسية، وهي مراعي البادية السورية، التي تشغل مساحة تعادل ٥٥% من إجمالي مساحة سورية وتتلقى معظم أراضيها هطولات مطرية سنوية لا تتجاوز الـ ١٥٠ ملم تأتي غالباً بشكل أمطار عاصفية تسبب السيول في فصل شتاء بارد وقاسٍ، يعقبه فصل انتقالي قصير تنمو فيه النباتات الطبيعية التي تشكل عامل جذب لرعي مجاني للأغنام، ثم يأتي فصل الصيف الحار والجاف، الذي يؤدي لجفاف نباتات المراعي ويدفع الأغنام لمغادرة البادية نحو المناطق الزراعية .
وأضاف قرنفلة: تشكل الأغنام جزءاً أساسياً من هذا النظام البيئي الاجتماعي والاقتصادي، المفرط الحساسية للتغيرات، وخاصة كمية الأمطار ومعدل التبخر، و هو نظام شبه مغلق، يتميز بتفاعل مكوناته الأحيائية ( الإنسان والنبات والحيوان ) واللاأحيائية ( التضاريس والتربة والمناخ ) بتوازن دقيق جداً، وتتعايش الأغنام مع مكونات هذه البيئة في علاقات منفعة متبادلة، إذ تلعب حركة القطعان دوراً مهماً في تحسين البنية الفيزيائية للتربة، كما تشكل مخلفاتها أسمدة طبيعية، وتحت هذا النظام القاسي تنتقل الأسر البدوية ( حفظة الأغنام ) في بيوتها المتنقلة ( الخيام وبيوت الشعر) مع قطعانها بحثاً عن المرعى، ولتمارس أنشطة اقتصادية متنوعة بدءاً من صناعات الألبان إلى الصناعات البدوية التقليدية.
خمسة عقود مضت فشلنا في وضع استراتيجية لتنمية الثروة الغنمية وتحسين إنتاجيتها
ميزة نسبية
وأشار قرنفلة إلى أن سوريا تمتلك عرق أغنام العواس، وهو من أشهر عروق الأغنام العالمية، التي تنتشر في المناطق الجافة من بلاد الشام، وتسعى كثير من الدول للحصول على أفراد من هذه الأغنام لاستخدامها في تحسين إنتاجية عروق و سلالات أغنامها المحلية، وتعرف أغنام العواس بأنها ثلاثية الغرض تنتج اللحم والحليب والصوف، حيث تختص تركيبة لحومها بنكهة متميزة ترتبط بعوامل متعددة مثل طبيعة وتركيبة نباتات المراعي التي تتغذى عليها، وانتشار عروق ناعمة من الدهون بين طبقات اللحم، ما يكسبه نكهته المرغوبة في الأسواق الخارجية، ويشكل حليب الأغنام مصدراً مهماً للمصنوعات، حيث يستخرج منه الزبدة والسمن البلدي، إضافة إلى دخوله في سلاسل تصنيعية لإنتاج عدد كبير من منتجات الحليب التقليدية، أما صوف أغنام العواس فهو من أنواع الصوف الخشن، ويدخل بشكل رئيسي في صناعة السجاد الممتاز النوعية.
وتعتبر البادية السورية كما أوضح المهندس “قرنفلة” المراعي الأساسية لتلك الأغنام منذ زمن بعيد، حيث تتجه قطعانها عقب فصل هطول الأمطار ومطلع فصل الربيع من محيط البادية، غرب البلاد إلى الشرق باتجاه المراعي الطبيعية وتبقى في البادية حتى جفاف المرعى نهاية الصيف، لتتجه الأغنام مطلع الخريف لرعي بقايا ومخلفات حصاد محاصيل الحبوب والمحاصيل الزراعية الباقية فيما يعرف برحلتي التشريق والتغريب.
مورد مستدام للقطع الأجنبي
لطالما شكلت صادرات الأغنام نسبة مهمة من إجمالي صادرات سورية الزراعية، فقد أكد “قرنفلة” ان السجلات تحفظ أن قيم صادراتنا من الأغنام تجاوزت في بعض سنوات التسعينيات مبلغ ٢٣٦ مليون دولار، وهو رقم قابل للزيادة، فيما لو تم وضع سياسات حكيمة للتعامل مع هذه الثروة المتجددة، والتي تنافس النفط القابل للنفاد. وسبق أن احتلت سورية المركز الخامس عالمياً، والأول عربياً في صادرات الأغنام.
تهميش متعمد
أما فيما يتعلق بالواقع الراهن للأغنام السورية فقد أشار “قرنفلة” إلى أن الثروة الغنمية عانت خلال سنوات ما قبل الثورة، من ضغوط إجهادية كبيرة، وتهميش حكومي، فقد انخفض عددها من ٢٢ مليون رأس عام ٢٠١٠ إلى أقل من ٨ ملايين عام ٢٠٢٣ وذلك بفعل عوامل معقدة، منها تدهور حالة المراعي الطبيعية نتيجة الفلاحات والرعي الجائر، ونقص الأعلاف المزروعة، وارتفاع أسعار الأعلاف المستوردة، وتهريب الأغنام الى دول الجوار والذبح العشوائي لإناث الأغنام وتخبط القرارات بشأن تصديرها.
المطلوب مشروع إنقاذ وطني
أمام هذا الواقع لابد من حل ينقذ هذه الثروة من الضياع وحالات التهميش المتعمدة، وتشجيع تهريبها إلى الأسواق الخارجية وفق خطط كانت ممنهجة بقصد تكديس الثروة في جهات خاصة، فقد أكد “قرنفلة” ضرورة الحل على مستوى الوطن؛ حيث فشلنا عبر خمسة عقود ونيف في وضع استراتيجية واضحة المعالم، لتنمية الثروة الغنمية، كما فشلنا في وضع خطط عملية للحفاظ على المراعي الطبيعية، وتحسين قدرتها الإنتاجية، وفشلنا أيضاً في رسم سياسة تصديرية تخلق أسواقاً خارجية مستقرة ودائمة، وكذلك فشلنا في رعاية مربي الأغنام، الذين يعيشون تحت ظروف بيئية بالغة القسوة في أعماق البادية، بعيداً عن مظاهر الحضارة البشرية وبعيداً عن الخدمات التي ينعم بها أهل الحضر .
وثروتنا الغنمية التي تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على التوازن البيئي في البادية، وتقوم بتحويل نباتاتها (التي يصعب على الإنسان استهلاكها ) إلى لحم وحليب، و تسيطر لحومها على النسبة الأعظم من سلة لحوم المواطن السوري، وتشكل منتجات حليبها جزءاً أساسياً من مائدة إفطار الأسر السورية، وتساهم صادراتها بإنعاش الاقتصاد الوطني، وتعمل على خلق فرص عمل كبيرة، بارتباطاتها الأمامية والخلفية، والتي تشكل واحداً من أهم القطاعات الواعدة للاقتصاد السوري، بحاجة إلى مشروع إنقاذ وطني بعد تعرضها للاستنزاف، وتدهور إعدادها وإنتاجيتها على أن يشارك في رسم سياسات هذا المشروع مربو الأغنام الحقيقيون، لأن الخبرات تثبت أن صياغة أي مشروع تنموي، لا يساهم برسم معالمه المستفيدون النهائيون منه مصيره الفشل، ولنا في مشاريع استزراع البادية خير شاهد.