الحرية- إلهام عثمان:
عام على التحرير وقُلبت الموازين، التحول الأعمق حدث في واقع السوريين وفي عيون براعمهم، هذا الجيل الذي نشأ على إيقاع القذائف، وتشرّب الخوف بدءاً من صورة القائد المستبد إلى بعض رجال الأمن، والذين كانوا بمجرد ظهورهم بزيهم سبباً للخوف ومرادفاً للقمع المطلق.
نقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، إذ انتقل هؤلاء الصغار من صدمة البكاء عند سماع دوي القصف إلى حلم بريء، إنها شهادة حية على مرونة الروح السورية، ومؤشر على أن المستقبل يُبنى على أكتاف جيل واع وواثق، مع طفولة تتطلع بتفاؤل إلى وطنها الجديد.
فكيف استوعب العقل الطفولي هذا التبدل الجذري؟ وهل يمكن لجيل لم يعرف سوى الحرب أن يستعيد طفولته المسروقة وسط ركام الدمار؟ رغم ما مروا به من ضغوطات نفسية صعبة؟
من رمز للقمع.. إلى قدوة للحماية
وهنا بينت الخبيرة الأسرية عبير محمد ومن خلال حوار خاص مع “الحرية”، بأن طفولة الجيل السابق لطالما كانت محكومة بقاعدة الخوف من رجال الأمن، الذين كانوا يمثلون سلطة غامضة وقادرة على البطش، وهو ما ترسخ في اللاوعي الجمعي للصغار قبل الكبار.. لكن اليوم.. تبدلت النظرة تماماً.
وأكدت محمد أن التغيير الأبرز هو زوال حاجز الخوف القديم من رجال الأمن والشرطة، ليحل محله الحب والقدوة، فلم يعد رجل الأمن يمثل السلطة القمعية، بل أصبح يمثل النظام والحماية، لقد أصبح الأطفال يحيون شرطة المرور وعناصر الأمن ويلتقطون معهم الصور، وهذا ما كان غائباً أيام النظام السابق، وكيف لا.. وهم يرون فيهم قدوة ومثالاً للانضباط والقانون والحماية.
الثقة بالدولة
كما أوضحت محمد أن هذا التحول انعكس على أحلام المستقبل الجديدة للأطفال؛ فبدلاً من أن تقتصر طموحاتهم على الهروب أو النجاة، ظهرت رغبات تعكس الثقة في الدولة الجديدة.
حالات من الواقع
في المدارس، أصبح الأطفال يعبرون عن رغبتهم في المستقبل أن يكونوا بلباس كانوا يخافونه يوماً، فهو رمز للسلطة فقط دون الرحمة، حيث يقول أحمد ذو العشرة أعوام: “أحب أن أكون شرطياً لأحمي مدينتي”، وقد تجلى أمان الأطفال بانعكاسه في محيط الأسرة، فسابقاً كان الأهل يخافون على أبنائهم عند ذهابهم للعمل أو الدراسة ليأخذوا عنوة عبر الحواجز للخدمة العسكرية أو الإلزامية.
وبعد التحرير.. ومع قرار إلغاء الخدمة العسكرية.. أصبحت الأسر أكثر استقراراً وراحة نفسية، ما وفر بيئة خصبة لنمو طفل متفائل وواثق بالمستقبل والدولة.
الصدمة الإدراكية
وعن أثر الصدمة الإدراكية وآليات التعافي النفسي التي خلفها الدمار للأطفال الناجين من الحروب، كان لبداية التعافي النفسي والمجتمعي أثره، بينت اختصاصية التنمية البشرية أماني حسون لـ”الحرية”، والتي أوضحت أن هذا التحول المفاجئ في نموذج القدوة يمثل “صدمة إدراكية” ذات انعكاسات خطيرة على البناء النفسي، لافتة إلى أن الطفل يبني هويته الذاتية عبر الاقتداء، وهذا التبدل قد يؤدي إلى اهتزاز الثقة بذاته وبمن حوله، ما ينتج عنه ردود فعل أكثر عدوانية تجاه الأهل أو المعلم.
فقدان المصداقية
بسبب فقدان المصداقية في واقع الطفل عبر سنوات من الظلم، ظهرت لدى الطفل اضطرابات مختلفة: منها (كوابيس في النوم، رعشة جسد)، وتراجع في المستوى التعليمي وصعوبة في التركيز.
كما أضافت حسون: هناك فرق جوهري للآثار النفسية مابين الخوف المستمر من القصف وبين رؤية الدمار والركام المحيط، والذي قد يضطر الطفل لرؤيته يومياً في بعض المناطق المدمرة في دمشق وغيرها، وهنا تقول حسون: لكل حالة تحدياتها الخاصة:
– فالخوف المستمر يؤدي إلى استثارة في الجهاز العصبي، والذي يسبب توتراً وشداً عضلياً لدى الأطفال، وقد تقود إلى القلق، وعدم التركيز واليأس والهروب، أو حتى العزلة والاكتئاب.
-أما الحالة الثانية وهي زوال الخوف مع بقاء الدمار يقود إلى انهيار معنوي يؤثر على تدني الوعي عند الطفل، وبالتالي تتقلص الفرص المستقبلية لديه.
وهنا شددت حسون على أن الأثر النفسي والجسدي يكون أكبر في حال التعرض لرعب وخوف مستمر، وأن آليات التدخل تختلف بناءً على عمر الطفل ونوع تعرضه.
طفولة مسروقة على المحك
هل يمكن استعادة الطفولة المسروقة؟ وما هي أبسط الأدوات لتقديم الدعم النفسي لتعزيز التعافي من قبل الأسرة والمدرسة؟ سؤال وجهته “الحرية”، لتجيب حسون: نعم يمكن استعادتها، لكن ذلك يتطلب بيئة داعمة ومجهوداً منظماً، لافتة إلى أنه بالرغم من أن التجارب القاسية تترك أثراً، إلا أنه “قابل للتعديل” وذلك عبر الدعم المستمر من قبل المحيط.
أبسط الأدوات للتعافي
وعن أبسط الأدوات للتعافي حسب رأي حسون الاستقرار والأمان النفسي والمادي للطفل وبشكل يومي- اعتماد روتين نوم ووجبات ثابتة تحدد من قبل الأسرة.
وأما عن أهمية دور المدرسة في تقديم ذلك الدعم فيكون بتوفير وقت للعب والخيال بعيداً عن الأهداف العلمية، وعدم تحميل الطفل مسؤولية حتى في اللعب، وتأمين “زاوية أمان” في الصف، مع تحفيزه على ممارسة الإنجازات الصغيرة اليومية.
التعامل مع العدوانية
أما عن طرق التعامل مع العدوانية لدى الأطفال بسبب ما تركه الخوف والدمار خاصة أولئك الأطفال الذين قدموا من قلب الحدث وحسب رأي حسون: تكون بوضع حدود بتحديد وقت لـ”استراحة التهدئة”، محاورة الطفل وحيداً، وإقحامه في مشاريع تعاونية (تنظيف، زراعة)، الابتعاد عن الاستماع للمحفزات السلبية مثل الأخبار ولقطات العنف في وسائل التواصل، أو في الأحاديث المتداولة بين أفراد الأسرة، والحرص على التواصل غير الموجه.
علامات تستوجب التدخل النفسي الفوري
وهنا حذرت حسون من علامات تستوجب إحالة الطفل لطبيب مختص فوراً، وهي: وجود إيذاء ذاتي، أفكار انتحارية، عنف شديد، أو تراجع مستمر في النوم أو الطعام أو النظافة الشخصية.
تحدياً وجودياً
وللتعليم صلة.. خاصة أن المدارس هي امتداد للأسرة، وهنا شددت الموجهة التربوية فاطمة كاملة على أن قطاع التعليم يمثل “تحدياً وجودياً”، حيث أدت سنوات الصراع إلى تدمير أو تضرر ما يقرب من ثلث البنية التحتية للمدارس، لافتة إلى أن الأزمة الأعمق تكمن في أزمة المناهج والتسرب المدرسي.