الحرية – مها سلطان:
ثلاثة أيام على الانفجار الهائل الذي وقع في ميناء شهيد رجائي في مدينة بندر عباس الإيرانية، الجدل المتسع الذي حوّل حزن الإيرانيين إلى غضب عارم- مع حصيلة مفتوحة لأعداد الضحايا- لن ينحسر قربياً في ظل التحقيقات التي تجري والتي لم تقدم حتى الآن نتائج نهائية حول الأسباب الحقيقية.
الدخان الأسود الكثيف مازال يغطي سماء إيران، بدوره، لن ينحسر قريباً في ظل انسحابه سياسياً وأمنياً على المستوى الداخلي وبتقاطعات إقليمية، مع تداول نظريات حول كونه مفتعلاً، بأصابع إسرائيلية، لتزامنه مع اختتام المفاوضات الإيرانية – الأمريكية في جولتها الثالثة في سلطنة عمان السبت الماضي، حيث تسعى إسرائيل لإفشالها، أو لعرقلتها على الأقل، بانتظار ما قد تحمله المرحلة المقبلة من تطورات في المنطقة تنسفها، أو ما يمكن أن تُقدم عليه إيران نفسها في ظل اشتداد الضغط الإقليمي عليها مع خسارتها جلَّ أوراقها (أذرعها) التي كانت تتمترس خلفها لإدارة نفوذها في المنطقة والمحافظة عليه.
إذا ما صحّت هذه النظريات فإنها ستكون حكماً على جدول أعمال الجولة الرابعة من المفاوضات المقررة في الـ5 من أيار المقبل، دون تحديد مكانها حتى الآن، رغم أن جميع المؤشرات تتجه نحو عقدها في سلطنة عمان أيضاً، لكن هذه النظريات لن تكون ملفاً معرقلاً بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنها ستكون حاضرة في سياق ملفات تتجاوز ملف المفاوضات الأساسي، أي النووي الإيراني، باتجاه الإقليم، أو لنقل أن كلا الجانبين، الإيراني والأمريكي، سيحرص على أن لا تكون ملفاً معرقلاً، فهما على الأقل يتفقان على هدف أن لا مصلحة لهما في التصعيد والمواجهة العسكرية.
من أوباما إلى ترامب
مع ذلك، النهايات لا تبدو واضحة، أو إلى متى ستستمر جولات التفاوض، صحيح أن جولاتها تسير بوتائر متقاربة زمنياً ويصدر عن جانبيها تصريحات إيجابية، إلا أن اللا يقين حالة ملازمة لها، حيث لا يصدر عن المفاوضين، الإيرانيين أو الأميركيين، تفاصيل شافية وافية، وهو ما يفتح باب التوقعات على مصراعيه، تفاؤلاً وتشاؤماً، وبين التفاؤل والتشاؤم تقبع المنطقة التي فيها من الصواعق المتفجرة ما يكفي ويفيض. الرئيس الأميركي نفسه يعزز هذه الحالة مع تصريحات تلعب بين التفاؤل والتشاؤم، ففي أحدث التصريحات جدد ترامب حديث أن أميركا قد تضطر إلى شن هجوم فـ«إيران يجب ألا تمتلك سلاحاً نووياً». ترامب يقول ذلك بعد كل حديث عن تفاؤله بالتوصل إلى اتفاق مع إيران مستطرداً: لا أحد غيرنا يستطيع القيام بذلك.
وسبق لترامب أن انقلب على «الاتفاق النووي» الذي أبرمته إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما مع إيران في عام 2015 وقام بإلغائه في عام 2018 باعتباره يقوي إيران إقليمياً ودولياً، على حساب المصالح الأمريكية.
وبعد أسابيع من دخوله البيت الأبيض، وإطلاقه تصريحات عالية المستوى ضد إيران، عاد ترامب إلى ما يسميه «مواءمة احتمالات التفاهم» مع طهران بعد إظهار انفتاحها على الدبلوماسية الثنائية، لينتقل من أقصى الضغط إلى طاولة الحوار، واضعا إياها كخيار إستراتيجي للتعاطي مع طهران ومقايضتها، وليفتح بالمقابل «جبهة» مع المعارضين لهذا الخيار داخل إدارته، ومع إسرائيل التي تدفع منذ أشهر باتجاه مهاجمة إيران، وكانت تعول على ترامب ليُقدم على ذلك عاجلاً، لذلك وعندما فشلت في ذلك، وعندما اتسعت دائرة التصريحات الإيجابية المتبادلة، وتم تسريب معلومات عن أن الاتفاق «قريب جداً» جاء ذلك الانفجار الهائل في ميناء بندر عباس، والذي تم ربطه بإسرائيل، علماً أن إيران لم تصرح بما يعزز هذه الفرضية، ولا إدارة ترامب فعلت. وبدا أن كلا الجانبين لا يريدان الخوض في هذا المجال، على المستوى العلني، أما على مستوى الكواليس فسيكون هناك حديث آخر بلا شك.
احتمالات التفاهم
بكل الأحوال، هناك توقعات على نطاق واسع بأن الجولة الرابعة المقبلة ستوسع دائرة التفاوض، خصوصاً وأن الجولة الثالثة شهدت «مناقشات أكثر تفصيلاً» ولكن هل هذا يعني أن الاتفاق بات قريباً؟
ليس بالضرورة. هناك شبه اتفاق على أن ما توافق عليه الطرفان هو أرضية مشتركة تسمح بالاستمرار دون أن تحل القضايا الرئيسية العالقة بعد، رغم أن النجاح هنا لا يتعلق بالقضايا الرئيسية بقدر ما يتعلق بالتفاصيل، وهذه التفاصيل تتعلق بالمنطقة بالقدر نفسه الذي يتعلق بإيران.
الولايات المتحدة تريد ضبط البرنامج النووي الإيراني من المنظور الأمني الإقليمي الخاص بها، إذ ليس بالضرورة- بالنسبة لها- الوصول إلى اتفاق نهائي (تريده إيران) وإنما منع إيران من الحصول على سلاح نووي (كما يقول ترامب) مع الحفاظ في الوقت نفسه على قدرة كافية من الضغط السياسي والاقتصادي عليها (وهو ما لم يكن متوفراً في الاتفاق الذي أبرمته إدارة أوباما).. وعليه فإن ما يريده ترامب فعلياً هو إدارة الملف النووي الإيراني وليس إغلاقه، لأن إغلاقه يعني انتفاء قدرة واشنطن على الضغط والتأثير في السلوك الإيراني، إقليمياً، هذا عدا عمّا يفترضه الاتفاق النهائي من استعادة إيران الأموال الهائلة المحتجزة في الخارج، والتي من شأنها أن تضاعف القوة الإيرانية، عسكرياً واقتصادياً. (واستعادة الأموال تُفضي بالضرورة إلى رفع العقوبات وهو الهدف المهم الثاني لإيران بالتوازي مع هدف الضمانات).
الضمانات
بالنسبة لإيران التي تفاوض تحت سقف «صدمة إلغاء ترامب الاتفاق النووي عام 2018» فهي تسعى بشكل أساسي لاتفاق يتضمن، بصورة واضحة لا لبس فيها، ضمانات مُلزمة لترامب، ولمن يأتي بعده، وهي وإن كانت تظهر اللين في التفاوض، إلا أنها لن تتخلى عن هذه الضمانات، فبدونها كل اتفاق سيئ بالنسبة لها.
بالمقابل لا يريد ترامب تقديم ضمانات تضعف هدفه الأساسي وهو ضبط إيران عبر إبقاء حالة مركزة من الضغط عليها. هذا يعني أن الجولات ستستمر بلا نهاية، وهذا لا يخدم المصلحة الأمريكية التي تريد ضبط المنطقة كلها بعد تحقيق ضبط إيران، وهي وإن كانت تستغل ضعف إيران الإقليمي في هذه المرحلة إلا أنها لا تستطيع ضمان أن يستمر هذا الضعف أو أن لا تستعيد إيران أو تكتسب أوراق قوة وأذرعاً جديدة في المنطقة، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية هناك إسرائيل التي تحتاج إلى ضبط تجاه إيران وما يمكن أن تُقدم عليه في عمل فردي يضع إدارة ترامب أمام إجبارية المواجهة العسكرية مع إيران، أو لنقل مواجهات عسكرية في نقاط إقليمية محددة لا تريدها واشنطن في ظل مرحلة انتقالية خطيرة يمر بها النفوذ الأمريكي في المنطقة.
بين هذا وذاك، هناك واقعية تقوم على معادلة الالتقاء في «مساحة الممكن» ربما هذا ما يسعى إليه الجانبان، أي الالتقاء عندما يمكن تحقيقه حالياً لمنع أو تأخير أو احتواء تداعيات إعلان الفشل النهائي، وهذا اتجاه يخدم إيران بالدرجة الأولى حيث تعمل على الاستثمار لأقصى حد في «الفرصة» التي يقدمها لها ترامب، وهي المثقلة بأعباء اقتصادية إقليمية (وداخلية يتم التعتيم عليها). ترامب يدرك ذلك جيداً ويلعب على هذا المستوى، ويرى أنه في الموقف الأقوى، ويعتقد أنه يستطيع الاستثمار لأقصى حد في هذه الأعباء التي لن تكون لمصلحة إيران في حال طال أمدها.
ماذا عن المنطقة؟
لا يمكن إلا أن تكون هناك حالة ترقب شديد لجولات التفاوض الأمريكية – الإيرانية، ومع الترقب حذر في التفاؤل، فبالنظر إلى واقع المنطقة لا يمكن الإفراط في التفاؤل، ولكن هل مصير المنطقة مرتبط بالكامل بنتائج هذا التفاوض؟
الرأي السائد يقول نعم، إذ إن التوصل إلى اتفاق أميركي – إيراني سيؤدي إلى حلحلة جميع الملفات الساخنة التي ما زالت بعيدة عن التبريد رغم أنها تتسم حالياً بأوضاع شبه محسومة، سواء في سوريا أو لبنان أو اليمن، وغيرها. ولكن هل هذا ما تريده إدارة ترامب؟ أي أن يتم تقاسم نفوذ بينها وبين إيران على مستوى هذه الملفات.
..بمعنى آخر هل ترضى إيران أن تسحب يدها بالكامل من هذه الملفات مقابل اتفاق نووي نهائي مع واشنطن ينزع المنطقة بالكامل من بين يديها؟.. وإذا قبلت واشنطن التقاسم، أو جزءاً منه، هل تقبل إسرائيل التي ترفع إيران إلى مستوى العدو الأكبر؟
الرأي الآخر، يقول لا. المنطقة ليست مرتبطة بالكامل بإيران وبنتائج تفاوضها مع الولايات المتحدة، إذ إن إيران تشكل ملفاً واحداً فيها، صحيح أنه ملف رئيسي لكنه ليس الوحيد، وليس الأخطر، عدا عن أن للمنطقة – تاريخياً- مفاجآتها غير القابلة للتنبؤ. لا شك أن التوصل إلى اتفاق يخدم مسار التهدئة في المنطقة (وتالياً مسارات التنمية الاقتصادية والتجارية) ولكن من يستطيع الجزم؟.. من يستطيع القول إن إيران هي اللاعب الرئيسي في المنطقة وإن نجاتنا تتوقف على احتوائها؟
الأجوبة برسم ما بعد الاتفاق إذا تحقق.. أما إذا لم يتحقق فكل السيناريوهات قائمة.