إذا المحبة خاطبتكم فصدقوها.. فالغرباء يتركون أحزانهم ويمضون!

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية- جواد ديوب:

يقول أنسي الحاج في شذراته الشعرية الساحرة: “لا تَرْتَبْ، صدِّقْ، أَنْ تُخْدَع أكرمُ من أن تَكْسِر نظر صاحبك”. فيما يقول أميل سيوران: “الألم يجعلك تعيش الزمن في تفاصيله، لحظةً لحظة. فلا حاجة إلى التساؤل عما إذا كان موجوداً بالنسبة إليك! إن الزمن ينزلق على الآخرين، على الذين لا يتألمون؛ لذلك يمكن القول إنهم لا يعيشون في الزمن، وربما لم يعيشوا فيه أبداً”.
وأتساءل: ما التعاطف؟ هل هو فقط حاجة الضعيف إلى صُحْبَةٍ؟ أهي حاجة من يعاني إلى من يستمع إليه ويبكي معه ومن ثم يشفق عليه؟ أم هو القدرة على تمثّل آلام الآخرين دون أن نتركها تخترقنا وتخلخل هناءة أيامنا!؟
إذ إننا حتى في التعاطف مع الحزين، نصبح أحياناً انتقائيين أو مزاجيين، ففي محاولتنا الاستماع لشخصٍ يتألم، ينتابنا نوع من التأفف وشيء من التبرّم حين نلمح في وجه المتكلّم عن حزنه نوعاً من ادعاء أو محاولةٍ للفتِ النظر، أو لنقل أنه حين يلتقط المتعاطِفُ، بلمحة مباغتة، تلك الالتفاتة المدّعية أو المتوسلة للتعاطف في وجه الشخص المتكلم، هكذا يصبح فجأة كمن وقع في فخّ اسمه: التعاطف الإجباري.
بتعبير آخر: كأننا نقتنع أكثر، أو نُعجب أكثر بالشخص القادر على التعبير عن حزنه من دون أن يشعرنا بأنه يريد كسب شفقتنا عليه، وكأننا نُعجَب بالشخص الذي لا تهمُّهُ ردةُ فعلنا للوهلة الأولى، ذاك الشخص المتألم الذي يتحدث عن حزنه وألمه بتلقائية نحسده عليها، أو نتمنى معها أن نفعل ذلك بدلاً منه.. تلقائية تجعلنا نشعر كم هو مريح ومؤنسٌ للروح أن تتحدث عن ألمها وأن تلقيه خارجها.. تلقائيةُ الحزينِ القويّ لا الحزين الضعيف، تلقائيةُ المكلوم عزيزِ النفس لا المجروح الاتكاليّ.
وربما لذلك كان منصور الرحباني، الشاعر الرقيق، أن يتحدث للغرباء، يقول: «أُحِبُّ أن أجالسَ الأغراب لأنهم يمضون، لا يتركون حزنهم، لا يوقظون جزراً غريقة فينا، أما رفاق صغري، وجوهُهم صارت نحاساً، أهرب منها، لأنها وجهي وتاريخي وعمري».

البوحُ انعتاقٌ أم قيد؟

ورغم الفكرة القائلة إن من يحدّثك بأسراره امتلكك وقيّدك بها إلى الأبد، وأنك تصبح أسير أسراره وألمه، وأنه في الوقت الذي نعتقد فيه أننا امتلكنا القدرة على الإصغاء، القدرة على جعل الآخر يبوح بمكنوناته لنا، نكون قد علِقنا نحن بما انزاح عن صدره، وبما ألقاه من أحمال تضاف إلى أحمالنا.
لكن أليس هناك في المقابل ما يمكن أن يسمّى «الحاجة» لأن تكون أنت في موقع الـ«مُحتاج إليه». تلك الرغبة في أن تكون أنت من يطلبُ منه الآخرون عوناً، مساعدةً، ربما لنقتنع في دخيلتنا بأننا أفضل حالاً من غيرنا، وأننا مازلنا قادرين على العطاء بمقابل أو من دونه، ربما لأن هذه الرغبة هي مطلبٌ نفسيٌ لكل إنسان بقدر ما هي ميزة، أي إنها نقيصةٌ وميزةٌ في الوقت نفسه.
الصراع الحقيقي في معنى العطاء ربما هو صراع الإنسان مع نفسه، بين أن يكون عاقلاً، خيّراً، محبّاً، كريماً، غير أناني، غير حسود، في مقابل أن يحمي نفسه وروحه من بخل وأنانية وحسد وعدائية الآخرين في الوقت ذاته!
لكن بسبب ذلك، ولنكسر طغيان النفوس، يجب أن نتعلّم ونتدرّب على «فعل الحب»، ليس فقط كعاطفة، بل كأسلوب حياة، ألا يقول جبران خليل جبران: «إذا المحبة خاطبتكم فصدّقوها/ إذا المحبة أومت إليكم فاتبعوها/ المحبة تدرسكم على بيادرها لتظهر عريكم/ المحبة تجعلكم كالثلج أنقياء/ لا تملك المحبة شيئاً ولا تريد من أحدٍ أن يملكها».
أو كما يقول أنسي الحاج عن شؤون القلب: «الجميلُ مَدينٌ للعاشق الذي يُشعِره بأنّه حاملُ سرّ. لكنَّ الجميلَ يبدأ بفقدان سحره عندما يصدّق أنّه حامل سرّ… مغناطيسُ السرّ براءةُ صاحبِهِ منه»

دفتر حسابات عاطفي!

ولذلك يفقد العطاء معناه ويفقد المعطاء نبله كلما تحدث فيما يعطيه، وكلما كرر على مسامع من يعطيه بأنه «لن يتوانَى لحظة عن تلبية طلبه» لكنه يتبعها فوراً بعبارة: بأنه «لم يبخل عليه يوماً بما طلب».
إذ ليست من الأجواد امرأةٌ تعطي روحها وجسدها لحبيبها فتحسب له ما أعطت على أنه فائض كرمٍ منها، وليس أكثر بؤساً من رجل أعطى من مقدرته وعنفوانه وماله وفهمه لحبيبته، لكنه يردد كل الوقت أنه يفعل كذا وكذا من أجلها، وأن ذلك كله كان فداءً لعينيها، بينما هو يسجل كل تفصيل في دفتر حسابات عقله ليعاود محاسبتها وقت الغضب أو ساعة الزعل!

سيزيف عاشق!

لكني أودُّ أن أشير إلى تمثالٍ من إبداع النحات السوري (علي سليمان)، فما أدهشني فيه هو الصورة المعاكسة لاستعلاء المغرورين أو استحواذ البخلاء.. فشخصُ تمثاله يبدو مطلق إنسان (بكون التمثال بلا أية ملامح) أشبّهه بـ”سيزيف الأسطورة”، لكنّه هنا يحمل المحبة بدل صخور التراجيديا (قلب حب بلون الأزرق البحري، حجمه أكبر من حجم الجسد الحاني تحت ثقله) يحمله معه أينما ارتحل، بإصرارٍ وعزيمةٍ واضحين، وأكثر ما أذهلني في مجمل التكوين النحتي الرائع؛ هو تلك القلوب الصغيرة المتناثرة حوله وكأن هذا السيزيف العاشق، بقصدٍ أو بغير قصد، ينثر الحب ويبذر المحبة في الدروب التي يمشيها.

Leave a Comment
آخر الأخبار