الحرية- وديع الشماس:
تشهد السياسة النقدية في سوريا نقاشاً واسعاً حول خيارات إصلاح العملة الوطنية، سواء عبر حذف أصفار من الليرة السورية أو عبر إصدار عملة جديدة كلياً، هذه الإجراءات، رغم ما تحمله من أبعاد تقنية ونفسية، تبقى رهينة لمدى اقترانها بإصلاحات اقتصادية أعمق.
حذف الأصفار: تجميل أم علاج؟
يُعد حذف صفرين من العملة خطوة شكلية تهدف أساسًا إلى تسهيل التعاملات الحسابية اليومية وتقليص الأرقام الكبيرة في الدفاتر والموازنات، مثل هذا الإجراء قد يخفف الضغط النفسي على المواطنين ويعطي إيحاءً بقدرة الدولة على ضبط التضخم، لكنه في الواقع لا يغير من القيمة الحقيقية للعملة ما لم يترافق مع خطوات جذرية في ضبط العجز المالي، زيادة الإنتاج، والتحكم بالكتلة النقدية.
ورغم هذه الإيجابيات، يبقى الخطر الأكبر متمثلًا في استغلال بعض التجار للفترة الانتقالية لرفع الأسعار بشكل غير مبرر، الأمر الذي يجعل التدخل الحكومي عبر الرقابة التموينية وتحديد أسعار أساسية للمواد الاستهلاكية أمرًا لا غنى عنه.
تبديل العملة: فرصة لسحب السيولة
أما إصدار عملة جديدة بالكامل، سواء بحذف الأصفار أو من دونها، فيحمل فوائد إضافية. إذ يوفر للدولة فرصة سحب السيولة الفائضة من السوق، ومكافحة التزوير، والتخلص من الكتلة النقدية التالفة أو المخزنة خارج الجهاز المصرفي، هذه الخطوة يمكن أن تسهم في تعزيز الثقة بالنظام النقدي إذا ما تمت بحرفية وشفافية، لكنها بحد ذاتها لا ترفع قيمة العملة أمام الدولار أو العملات الدولية الأخرى، فذلك يبقى مرتبطاً بقدرة الاقتصاد على الإنتاج، وبحجم الاحتياطيات، وبميزان التجارة.
تجارب إيجابية من العالم
شهدت عدة دول عمليات ناجحة في هذا المجال، على سبيل المثال، أقدمت تركيا عام 2005 على حذف ستة أصفار من عملتها، حيث تحولت المليون ليرة قديمة إلى ليرة واحدة جديدة، هذا الإجراء ترافق مع إصلاحات اقتصادية قوية ودعم من صندوق النقد الدولي، فانعكس استقرارًا في الأسعار وزيادة بالثقة الدولية بالاقتصاد التركي.
كما نجحت البرازيل في التسعينيات في إصلاح عملتها بعد سلسلة من عمليات حذف الأصفار، لكن النجاح جاء حين ربطت الحكومة الإصلاح النقدي بخطة اقتصادية شاملة عُرفت باسم “خطة ريال”، والتي ركزت على مكافحة التضخم وتعزيز الإنتاج.
أما ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية فقدمت مثالًا كلاسيكيًا حين أصدرت “المارك الألماني” بدلًا من “الرايخ مارك”، ما ساعد على استقرار اقتصادي سريع شكل أساس “المعجزة الاقتصادية الألمانية”.
سعر الصرف والتأثير النفسي
عادة ما ترافق عملية تبديل العملة حالة من التذبذب المؤقت في سعر الصرف، إذ يسعى بعض المواطنين لتحويل مدخراتهم إلى الدولار تحسبًا من أي خسارة محتملة، غير أن تدخل المصرف المركزي، عبر تنظيم الاستبدال ووضع سقوف للسحب والرقابة على عمليات الصرافة، قادر على تقليل هذه الاضطرابات واحتوائها.
المدة الزمنية المثلى
إحدى النقاط الجوهرية في نجاح أي عملية تبديل للعملة تكمن في تحديد المدة الزمنية المناسبة، فالمدة القصيرة جداً قد تؤدي إلى فوضى وازدحام وارتباك في الأسواق، بينما تمنح المدة الطويلة المضاربين والمهربين فرصة للاستفادة من الفارق وعليه، تعتبر فترة تتراوح بين ثلاثة إلى ستة أشهر الخيار الأمثل، مع إمكانية تمديد محدود عبر البنوك فقط.
بين الشكل والجوهر
في المحصلة، تبدو خطوات حذف الأصفار أو تبديل العملة وسيلة تقنية لتحسين المشهد النقدي، لكنها تظل عاجزة عن تحقيق أثر مستدام من دون إصلاح اقتصادي شامل يعالج جذور التضخم ويدعم الإنتاج المحلي. وحدها السياسات المتوازنة، التي تجمع بين ضبط السوق والرقابة على الأسعار من جهة، وتعزيز الثقة بالقطاع المصرفي من جهة أخرى، قادرة على تحويل أي إجراء نقدي إلى أداة إصلاح حقيقية وليست مجرد عملية تجميلية.