الحرية – محمد زكريا:
لم تكن القيود التي فرضها قانون قيصر، سهلة على الشعب السوري بل هي خانقة لدرجة لم يعد السوري يستوعب ما يحصل له، وأنه من الطبيعي جداً أن يفرح عندما يتلقى خبراً يفيد بالإجراءات المتسارعة لإلغاء ذلك القانون المشؤوم، فالقطاع الزراعي كغيره من القطاعات التي تضررت من العقوبات بشكل عام، ويمكن القول إن رفع العقوبات وكأنه نَفَس طويل في صدر الأرض، فالمزارع الذي كان يحسب كل حفنة سماد، وكل ليتر مازوت، بدأ يتساءل اليوم: هل آن الأوان ليعود الحقل إلى عافيته؟
خسارة أكبر
وحسب الخبيرة الزراعية الدكتورة انتصار الجباوي أوضحت أنه منذ منتصف عام 2020، حين فُرضت العقوبات، كانت الزراعة السورية أحد أكثر القطاعات تضرراً إذ لم يكن ” قيصر” موجهاً ضد الفلاح مباشرة، لكنه طال كل ما يحتاجه ليبقي أرضه حية: الأسمدة المستوردة، قطع الغيار، المبيدات، والوقود. ومع انقطاع الدعم المالي، وانهيار العملة المحلية، وجد الفلاح نفسه يزرع بخسارة ويبيع بخسارة أكبر.
منوهة بأن الإجراءات المتسارعة التي نشهدها اليوم لإلغاء (قيصر)، لا تعني أن الأزمة انتهت، بل يفتح الباب أمام تحدٍ جديد من نوعٍ مختلف: كيف نحول هذا الانفراج النسبي إلى فرصة حقيقية لإحياء الإنتاج الزراعي، بدل أن يتحول إلى مجرد ارتياح مؤقت في الأسواق؟
الثقة الاقتصادية
وبينت الجباوي لـ” الحرية ” أنه في الجانب الاقتصادي، حيث المتوقع أن يؤدي رفع القيود إلى تحسن تدريجي في استيراد مستلزمات الإنتاج، وعودة بعض الشركات الأجنبية أو الإقليمية للتعامل مع السوق السورية، وبالتالي هذا يعني انخفاضًا تدريجيًا في أسعار السماد والوقود والبذور، وزيادة القدرة على تأهيل منظومات الري والطاقة الزراعية.
لكن في المقابل، لن يعود كل شيء بسرعة، فالثقة الاقتصادية تحتاج إلى وقت، والأسواق تحتاج إلى استقرار مالي ومصرفي يطمئن المستثمرين، والمزارع يحتاج إلى سياسات دعم واضحة تضمن له الحد الأدنى من الربحية، فالمشكلة لم تكن في العقوبات وحدها، بل في هشاشة البنية الإنتاجية التي تركتها وراءها سنوات الحرب.
الميدان الزراعي
ولفتت الجباوي إلى أنه في الميدان، تسمع من المزارعين كلمات ممزوجة بالأمل والحذر، وأنه رغم أن رفع العقوبات يبعث على التفاؤل، إلا أن الميدان الزراعي ما زال يُعبّر عن تطلعات مشروعة للفلاحين الذين أنهكتهم سنوات الغلاء والندرة. فهم لا يبحثون عن وعود جديدة، بل عن قدرتهم على استعادة زمام الإنتاج بأيديهم؛ أن يجدوا السماد متاحًا بسعر معقول، وأن يُشغّلوا مضخاتهم من دون أن يثقلهم عبء الوقود، وأن يحصدوا ثمار تعبهم بكرامة، مشيرة إلى أن جيل الشباب الذي دخل الزراعة بعد الحرب فيرى أن الانفراج الاقتصادي يجب أن يترافق مع تسهيلات حقيقية في القروض وتوزيع منصف للدعم، حتى لا يبقى الفلاح الصغير هو الحلقة الأضعف في معادلة الإنتاج.
لحظة فارقة
وتابعت الجباوي القول إن الواقع أن القطاع الزراعي اليوم أمام لحظة فارقة، إما أن تتحول نهاية العقوبات إلى نقطة انطلاق نحو استدامة زراعية حقيقية، من خلال خطط إنتاج وطنية تشجع الاستثمار والتصنيع الزراعي وتعيد التوازن بين الريف والمدينة…أو تبقى مجرّد انفراجه مؤقتة سرعان ما تبتلعها أزمات السوق والفساد والبيروقراطية.
مؤكدة أن رفع العقوبات قد يفتح الطريق، لكنه لا يزرع البذار بدل الفلاح. المطلوب اليوم إرادة وطنية تعيد للزراعة مكانتها كقلبٍ نابض للاقتصاد السوري، تدعمها سياسات إنتاج ذكية، وتمويل مرن، وشراكات شفافة مع المنظمات والقطاع الخاص، فالحقول التي صبرت سنوات على الجفاف والحصار، تستحق أن تُروى أخيرًا بماء الثقة والعمل المشترك.