الحرية – مها سلطان:
تشتغل الحروب فتسقط الجغرافيا وترتسم حدود الدم بين الدول بخرائط نفوذ جديدة. على مرّ التاريخ لا يمكن لهذه الخرائط أن ترتسم بالسياسة، ترتسم بالحروب فقط. يُقال في كل مئة عام هناك خرائط عالمية جديدة، لكن في منطقتنا ما انفكت هذه الخرائط عن الارتسام على الدوام، وإن كانت فلسطين هي المحور منذ إقامة إسرائيل على أراضيها، إلّا أن المنطقة بمجملها استمرت تدور حول هذا المحور وتتأثر به بصورة مباشرة، وفي بعض دولها بصورة حادة/عنيفة.
اليوم، وفي ظل أن الخرائط والمخططات من خلفها باتت معلنة، في حدودها النهائية، وفي التنفيذ، وفي القائمين عليها في الداخل والخارج.. وفي ظل أنها حالياً تمر بمحطتها الأكبر والأخطر، أي الحرب الإيرانية الإسرائيلية، فإن المُقدر للمنطقة أن تبقى مشتعلة لأشهر وربما لأعوام مقبلة، وفقاً لمجريات هذه الحرب وعلى أي حدود سينجلي غبارها، وهناك من يقدم نظريات على قدر كبير جداً من التشاؤم حيال حدود الحرب (بوجهها النووي) وأطرافها وامتداداتها إلى خارج المنطقة.
الجميع تقريباً متفق على أنه لا يمكن لأي من طرفي هذه الحرب، الانسحاب أو الجنوح إلى التفاوض من دون ارتسام علائم واضحة للنصر أو الهزيمة، لذلك ستستمر بصورة أكثر عنفاً في الأيام المقبلة، لناحية ضربات أكثر إيلاماً، وإن كان المراقب يجد بالعموم أن الضربات الإسرائيلية أكثر وقعاً وإيلاماً، فيما الضربات الإيرانية لا تزال في المستويات التي تستطيع إسرائيل تحملها (هذا ما تظهره الوسائل الإعلامية بالعموم) بل هي سعت لقلب مشاهد الدمار وما يسقط من قتلى وجرحى لعكس التأثير على الجمهور، عبر حرب إعلامية موازية، مع أعلى مستوى من التهديدات، والتي تستهدف بالدرجة الأولى الجبهة الداخلية، ومنع انهيارها على وقع الضربات الإيرانية. هناك من يتحدث عن حالة ضبط إعلامي، بمعنى التعتيم على حجم الخسائر الإسرائيلية، والتي لا تقل عن الخسائر الإيرانية بمستوييها العسكري (والنووي).
الجميع تقريباً متفق على أنه لا يمكن لأي من طرفي الحرب الانسحاب أو الجنوح إلى التفاوض من دون ارتسام علائم واضحة للنصر أو الهزيمة لذلك ستستمر بصورة أكثر عنفاً في الأيام المقبلة
عملياً، فإن إسرائيل لا تكف عن التصريح حول تغيير وجه المنطقة (حتى حدود أفغانستان) وتدرج حربها مع إيران ضمن ذلك. يُقال إن إيران كان محطة لاحقة، بمعنى أن هناك دولة أخرى كانت ضمن الاستهداف قبل إيران، لكن من غير المعروف بعد على وجه الدقة لماذا تقدمت إيران، وتراجعت الدولة الأخرى، ولكن ليس معنى ذلك أن هذه الدولة نجت، بل تم تأجيل الاستهداف لما بعد الانتهاء من إيران. وإذا كان هذا الكلام صحيحاً فإن دولاً أخرى في المنطقة (بعضها غير عربي) هي على طاولة مخطط تغيير وجه المنطقة.
بكل الأحول، لا يبدو أن إيران ستكون محطة سهلة التجاوز، فقد تقف الحرب عندها طويلاً، لأشهر ربما، إلا إذا تم الجنوح نحو التفاوض بشكل أو بآخر، وهذا أمر مستبعد حالياً، حيث لا تزال كل من إيران وإسرائيل تعتقدان أو تتمسكان بمسألة أنهما قادرتان على تحمل الضربات، إيران أو إسرائيل كل واحدة منهما تعتقد أن الوقت يخدمها ضد الأخرى، وأنها قادرة على الاستمرار في الضربات، فيما المستوى الإقليمي الدولي متأهب، وكل منهما تعول على دول محددة في هذا المستوى. بعض هذه الدول أعلن موقفه صراحة (باكستان إلى جانب إيران على سبيل المثال/ فرنسا بريطانيا إلى جانب إسرائيل) ولا يخفى هنا الأطراف الدولية التي تقف وراء هذه الدولة أو تلك.
إسرائيل لا تكف عن التصريح حول تغيير وجه المنطقة (حتى حدود أفغانستان) وتدرج حربها مع إيران ضمن ذلك و هناك من يتحدث عن حالة ضبط إعلامي بمعنى التعتيم على حجم الخسائر الإسرائيلية التي لا تقل عن الخسائر الإيرانية بمستوييها العسكري والنووي
أما الولايات المتحدة الأمريكية فما زالت تعلن «موقفاً متدرجاً» أي «يُبنى على الشيء مقتضاه» وفق المبدأ القائم في السياسة، وحتى في العسكرة والحروب. هذا يعني أن الموقف الأميركي معروف، أو لنقل معلن لناحية ما ستفرزه الضربات، وما إذا كانت ستدخل مباشرة عسكرياً مع إسرائيل، رغم أنها عملياً هي في إطار الدعم المباشر عبر ترسانة من أحدث القنابل الثقيلة (والطائرات الحربية) التي تزود بها إسرائيل، ولا تزال إسرائيل تطلب القنابل الأثقل للفتك بحصون المنشآت النووية خصوصاً فوردو (وهناك تقارير تقول إنها حصلت عليها فعلاً) حيث تعلن أن منشأة فوردو تضم المفاعل الرئيس لتصنيع القنبلة النووية، وإذا لم يتم تدميره فإن الحرب ستستمر بصورة أشد خطراً وعلى الجميع في المنطقة وفي خارجها، وبما يجبر واشنطن على الانضمام المباشر للحرب، لأن استمرار الضربات على مدى أطول من ذلك لن يكون بمصلحة إسرائيل، ولا بدّ لواشنطن أن تأخذ قرار التدخل وإلّا فإن إسرائيل نحو الهزيمة التي ستنعكس حتماً وحكماً على بداية نهاية التواجد الأمريكي في المنطقة، وفي العالم بطبيعة الحال، وهذا ما لن تسمح به.
عملياً حرب إسرائيل على إيران ومن خلفها واشنطن هي في وجهها الرئيس حرب تأكيد النفوذ في المنطقة أي حرب أميركا لتدمير «قوى إقليمية كبرى» ومن هنا يُقال إن إيران ليست الوحيدة على مخطط تغيير وجه المنطقة
عملياً، حرب إسرائيل على إيران، ومن خلفها واشنطن، هي في وجهها الرئيس حرب تأكيد النفوذ في المنطقة، أي حرب أمريكا لتدمير «قوى إقليمية كبرى» وفق معايير المنطقة، ومن هنا يُقال إن إيران (وهي قوى إقليمية كبرى) ليست الوحيدة على مخطط تغيير وجه المنطقة، هناك قوى أخرى بمجرد الانتهاء منها، ولا يخفى عملياً من هذه القوى.
منذ ما قبل الحرب الإسرائيلية الإيرانية، بل منذ ما قبل المفصل التاريخي المتمثل في (طوفان الأقصى 7 تشرين الأول 2023) وما بعده من أحداث دراماتيكية وصولاً إلى اليوم، فشل جميع المحللين تقريباً في توقع سيناريوات مستقبلية، وما زالت حركة الأحداث عصيّة على التنبؤ أو تقديم توقعات واضحة حتى ليوم واحد. تبدو الأحداث وكأنها تتعاكس قسرياً وتصادمياً مع حركة تاريخ كان من الممكن توقع مساراتها بصورة كبيرة، وتالياً الاستعداد لما هو قادم. أما اليوم، فالمنطقة تكاد تعيش على وقع (كل يوم بيومه). وعليه لا نستطيع حتى الآن تحديد خاسر ورابح في ظل معادلة مفتوحة على كل الاحتمالات والسيناريوهات.
الآن.. لنفترض أن مسار الحرب جنح نحو التفاوض بعد قناعة بأن لا رابح فيها ولا خاسر، هل هذا يعني أنه لن تكون هناك جولة حرب قريبة بين الطرفين نفسهما، وقريباً؟.. هل يتم تأجيل العودة إلى جولة حرب جديدة مع إيران وبدء جولة أخرى مع طرف آخر تراه إسرائيل لا يقل خطوة عليها عن إيران؟.. وبين التأجيل والعودة ماذا عن ظرف إقليمي دولي برزت بعض ملامحه في مسار الحرب الحالي؟ ونقصد بهذا السؤال الأخير دول وازنة في المنطقة أعلنت إما دعمها لإيران عملياً (أي عسكرياً وفقاً لتطورات الحرب) وإما أنها رفضت الحرب جملة وتفصيلاً، وتواصل التحذير من سيناريوهاتها الخطيرة على الجميع.
لنأخذ باكستان مثلاً باعتبارها أوضح مثال حتى الآن، هل يمكن أن نأخذ موقفها بالبحث والتحليل من دون مد الرؤية إلى ما هو أبعد جغرافياً؟.. إلى الصين مثلاً. دائماً أخطر أمر يتعلق بالصين، وفق الخصوم، أنها لا تعلن، لا تفصح، لا تتحدث كثيراً، وبالتالي فإن الخصوم لا يعرفون نياتها الحقيقية، فيبقون في حالة تشويش وارتباك. بالمقابل هم في حالة تفاجؤ دائم بما تحققه، داخلياً، خصوصاً على المستوى العسكري الثقيل (بعد الاقتصاد والتكنولوجيا المذهلة) أو على مستوى التحالفات والتكتلات.
تبدو الأحداث وكأنها تتعاكس قسرياً وتصادمياً مع حركة تاريخٍ كان من الممكن توقع مساراتها بصورة كبيرة وتالياً الاستعداد لما هو قادم.. أما اليوم فالمنطقة تعيش على وقع (كل يوم بيومه) في ظل معادلة مفتوحة على كل الاحتمالات والسيناريوهات
ضمن ذلك، يقال إنه حتى إسرائيل لا يمكن التنبؤ بأفعالها لاحقاً، ولا بمخططاتها البديلة في حال توصلت إلى قناعة بأن ضرباتها لإيران لا تجدي، أو أن الولايات المتحدة لن تدخل الحرب بصورة مباشرة.
من سياق عامين ماضيين يبدو أن كل أمر وفعل متفق عليه مع الولايات المتحدة، بما فيه الخطط البديلة، ويرى معظم المراقبين أنه من هنا تنطلق المخاوف، أي من الخطط البديلة.
بكل الأحوال وفي جميع الظروف، المنطقة (والعالم) محكومة بحالة انتظار قسرية وقاسية حتى إشعار غير معلوم، ومع أعلى مستويات التشاؤم والقلق.