الحرية- رنا بغدان:
يعتبر “الحجر الأبلق” من أشهر أنواع الحجارة التي استخدمت في الهندسة الإسلامية اتسم بها فنُّ العمارة في بلاد الشام ومصر، وتعتمد هذه الأنواع من الحجارة في تشكيلها على الكتل الجصية المربعة أو المستطيلة ذات النقوش والزخارف والألوان المختلفة، ويدخل فيها الحجر الأبيض مع الأسود أو الوردي.. وكانت تركّب داخل القاعات أو فوق أبوابها، واستخدمت في بناء قصر وردان شرقي مدينة حماة وقصر العظم والتكية السليمانية وغيرها من المعالم الأثرية والتاريخية في دمشق، ويعدّ “قصر الأبلق- التكية السليمانية” من أبرزها وكذلك المدرسة النورية الكبرى والمدرسة القليجية شرقي البزورية.
و”الأبلق أو البَلَق” لغة هو سواد وبياض في اللون. كما أنه نوع من أنواع الحجر الكلسي المعروف في اليمن والذي ورد ذكره في المعجم السبئي وفي النقوش القديمة.. ويعتبر حصن “السموءل بن عادياء” الذي يقع في شمال الجزيرة العربية أول حصن بني بنظام “الأبلق” خلال القرن الخامس الميلادي كما كان أول ذكر له قبل الإسلام في شعر السموءل نفسه.
والأبلق هو عبارة عن صفوف أفقية من الأحجار المتناوبة الألوان بشكل مرتب كالأسود والأبيض، أو الأحمر والأبيض، أو الأسود والأصفر أو الأحمر الترابي والبني الترابي وغيرها.. وقد أطلقت تسمية الأبلق في الأصل على تناوب اللونين الأسود والأبيض، ثم عممت على بقية الألوان خصوصاً في عمارة العهد المملوكي خلال السنوات 658-922 هجري، ويعتبر هذا العهد العصر الذهبي للأبلق، ففيه انتشر استخدامه بشكل واسع، ويعتبر “القصر الأبلق” الذي أقامه السلطان الظاهر بيبرس البندقداري بدمشق في القرن السابع للهجرة أول نموذج لهذا الأسلوب الزخرفي في عمارة ذلك العهد، ومن ثم ليتمّ مكانه إنشاء “التكية السليمانية” التي أمر ببنائها السلطان العثماني سليمان القانوني عام 1554 مع مدرسة على مرج كان يستخدم كميدان للسباق يقع على بعد 800 م إلى الغرب من مدينة دمشق القديمة على الضفة الجنوبية لنهر بردى.
ولم يقتصر الأمر في بناء الأبلق على دمشق وحدها بل عمم على معظم المباني في سورية ومصر وخاصة القاهرة، حيث عرف هناك باسم “الحجر المشهر”. واستمر الحال في الأبلق في العهد العثماني كامتداد للعمارة المملوكية، لكنه بدأ بالانحدار خلال نهايات ذلك العهد حتى اضمحل واختفى نهائياً من المشيدات الحديثة.
وكانت فكرة البناء بالمداميك ذات الألوان المتناوبة قد استمدت من متطلبات فنية أكثر منها احتياجات وظيفية، فتناوب اللونين الداكن والفاتح في المداميك يخفف إلى حد ما من ثقل كتلته لا بالوزن بل بالخداع البصري، وهي قاعدة معروفة نظرياً وعلمياً، كما أن أفقية الخطوط فيها تجعل تلك الكتلة تنساب عرضياً، بحيث يبدو البناء أقل ارتفاعاً وأكثر عرضاً، إضافة إلى تميزه عن الأبنية المجاورة أو المحيطة به مع استخدام شتى أنواع الزخرفة النباتية والهندسية ضمن فراغات وفضاءات ميزت الطراز السكني المعماري الذي يعدّ لوحة فنية تحاكي الطبيعة بما ضمت من الزخرفة الإسلامية أو فن تجميل الحياة الذي يعتمد على إظهار الكتل العمرانية وملء الفراغ الذي شغلته يد الفنان بحركة متصلة متشابكة استخدمت فيها الحجارة الأبلقية ذات الألوان الحارة والباردة بحرفية أخاذة تتماهى مع الصورة الجمالية للبناء فأتت متكاملة ومتصلة دلالة على اتصال الحياة الدنيا بالحياة الآخرة.
“الأبلق”.. جمالية تماهي الألوان في العمارة المتناوبةِ المداميك

Leave a Comment
Leave a Comment