الأشجار المهاجرة والحرائق المقيمة في لوحات الرسامين!

مدة القراءة 3 دقيقة/دقائق

الحرية- جواد ديوب:

لم تعد المقولة/النصيحة: “سافرْ…أنتَ لستَ شجرة” تنفعُ كاستعارةٍ شِعريةٍ على شكل نصيحة أو بوصفها مقارنةً وجوديةً بين كفّتي ميزان الحياة: البقاءُ والرحيل!
ولا هي بالعبارة المضحكة التي يمكن أن نقولها لأطفالنا لنجعلهم يدركون باكراً مفارقاتٍ فلسفية فيها التماعةٌ فكريةٌ محبّبةٌ أو نكهةُ الّلعبِ اللغويّ الذي يتعلّمون عبره كيف يُحلّقون بأحرف الأبجدية في فضاءات الخيال وبفضله!

رئاتُ المدن!

“سافِرْ… أنتَ لستَ شجرة” لم تعد جملة دقيقةً لأنه لو صحَّ لأشجارِ بلدنا أن تهاجرَ لهاجرتْ منذ زمن بعيد، هرباً من الحرائق التي تفتك بها، بل هو هرب من موتٍ يحيط بها مع كل نَفَسٍ من أنفاسها، مع كل غصنٍ وورقةٍ وبرعمٍ تُحاول به أن تدافع عن وجودها الكونيّ بل عن وجودنا البشريّ الذي لم تعد تعنيه الأشجار بوصفها “رئاتُ المدن وفسحة الروح” ولا حتى بما يمكن أن تشكّل كأيقونةٍ رمزيةٍ لقداسةٍ ما، ولا حتى بكونها استعارةً وارفةً في قصيدة شاعرٍ رومانسيٍّ أو شخصيّةً كرتونيةً في قصص الأطفال الخيالية، حيث تتحدّثُ الأشجار مثلَ الأجدادِ الطّيبين أو تحتضنُ الشجراتُ أهلَها والعابرينَ والغرباء مثلما تفعل الجدّات الحنونات!
لو صحَّ لأشجار بلدنا أن ترحلَ من هذا الهجيرِ لهاجرتْ واقتلعتْ جذورَها بيديها كي لا تبقى مطمعاً ل “مافيات” العقارات الذين لا يتردّدون لحظة في تجريف و”تصحير” مئات الدونمات من أراضٍ مخصصة للقمح والشعير أو كيلا تصبحَ في مهب مخربين ليس لديهم أدنى إحساس بالوطنية ولا يترددون في قطع واقتلاع عشرات الأشجار النادرة والمعمرة والمثمرة، بل حتى حرق زيتونٍ كنّا نفاخر بأنه مقدّسٌ مِنْ أوّلِ حبّة فيه حتى آخر نقطة زيت.. وكلّ ذلك يحدثُ بشكلٍ شبه يومي، وفي المحافظات كلّها.

نداءات وصرخات!

صرختُ مرّة، وهأنا أردّدها بكاملِ القهر اللازم: لا تكونوا شجراً يا أحبّة، لا تكونوا شجراً… لأنكم ستوقدون فحماً للجشع أو ستيبسون دون ماءِ العقلِ ودمع المحبّة!
كذلك صرخَ الرسامُ منصور إبراهيم عبر ألوانه وريشاته راسماً امرأةً تلملم بقايا شجر الرمان المحروق، وتحمله على أكتافها محاولةً النجاةَ من حرائقَ تلتهبُ في عمق اللوحة كأنها إنذارٌ لنا بالموت الوشيك.
الفنان منصور كتبَ إلى جوار لوحته كلماتٍ يائسةً متوسلةً تخاطب سوريا كلها:
“أما آن لكِ أن تخرجي كعادتك
من تحت الرماد…

إن قلوبنا تحترق عليك أيضاً أيتها البلاد”!

فيما كتبَ الفنان بديع جحجاح منشوراً على صفحته يناشد فيه كل من يقرأ ويسمع، أقتبسُ منه بتصرف:
“يا أيها الضبابُ المُضني أمطرنا رحمةً وغفراناً! قلتُ لنفسي ذات يوم بأنني لن أرسمَ الوجعَ الصريحَ، بل سأرسمُ الوعي، سأخبرُ الحكاياتِ بالرموز، لكن ها هي ذاتُ الآلام تعيدني إلى الأصفر والأسود والأزرق والرمادي والأحمر… مَنْ هذا الذي يظنُّ أنه سيكون من الناجين (وحده)؟! ومازلت أصرخُ (الكلام لا يزال للفنان جحجاح): استيقظْ أيها الإنسان (السوري) ، ولا تستنفرِ الوحشَ في داخلي، فالجميع خاسرٌ في هذه المحرقة، والجميع يشتاق المحبة ويشتاق الأمان والسلام.”

وإلى جوار صرخة الفنان جحجاح كانت لوحاتُه تستنفرُ حواسَنا بشرارات النيران المتطايرة منها، وتلفحُ متبلدي الأحاسيس بألوان حمراء تسيل من بين الرماد كأنها دمُ الشجرِ؛ كأنها دمنا.

Leave a Comment
آخر الأخبار