الحرية- مركزان الخليل:
منذ عقود مضت ونحن نسمع عن تنوع الثروات الطبيعية وغيرها في سوريا، ونملك الكثير منها، وبقيم مالية ضخمة بإمكانها أن تصنع منها دولة “الرفاهية بلا منازع”، وأن تكون القوة الاقتصادية الكبيرة بين اقتصادات العالم الكبرى، لكن للأسف الشديد، سمعنا وما زلنا نسمع، أمام هذه الحالة الاقتصادية المتدهورة، وحالة الضياع التي شهدناها، في كيفية استثمار هذه الموارد، لخدمة المجتمع والدولة، ثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها وبقوة على بساط البحث والمناقشة، وقبلها على الواقع الذي يثير “ألف تساؤل وتساؤل” وأولها السر في عدم التزام الحكومات المتعاقبة في ترجمة امتلاك هذه الموارد على أرض الواقع، واستثمارها في تحقيق رفاهية المجتمع والدولة، وتحصين أبنائه من العوز والفقر، والحاجة إلى الهروب لبلدان أخرى، للبحث عن مصادر دخل وغير ذلك.
كثير من الأسئلة التي لم تلق الإجابة الصحيحة حتى تاريخه، رغم إدراك الجميع لها، لكن الحديث عنها كان من المحرمات بسبب السلطة والفساد والمحسوبيات، واختلاف المحاصصة وغير ذلك كثير أيضاً.
متفق عليه
“الحرية” حاولت الدخول إلى ميدان هذه الأسئلة، علها تجد بعض الإجابة من خلال أهل الخبرة والاقتصاد، حيث أكد الباحث الاقتصادي الدكتور فادي عياش خلال حديثه لصحيفة “الحرية”، أنه من المتفق عليه أننا بلد يمتلك تنوعاً كبيراً في الموارد، ويزخر بالعديد من الثروات التي لا حاجة لإعادة ذكرها وتفنيدها اليوم، ولكن توفر الكوادر والثروات شرط ضروري، إلا أنه غير كاف وحده لتحقيق النمو وتراكمه للوصول إلى التنمية وهي الغاية الأسمى لأي اقتصاد.
فالتنمية تعني تحقيق وتعزيز الارتقاء بمستوى الرفاه الاجتماعي على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخدماتية وحتى السياسية، إلى مستويات متقدمة، وبهذا المقياس تقاس نهضة الدول وتطورها.
ولنجاح ذلك نحتاج لتوافر الإرادة والإدارة الصحيحة، لاستثمار الموارد المتاحة بأعلى فاعلية لتحقيق التنمية المنشودة بكفاءة، وهذا يتطلب بالإضافة إلى البنى التحتية الأساسية، توافر البنى الفوقية، والتي تتكون من المؤسسات وتطبيق المؤسساتية ضمن بيئة تشريعة مناسبة، ويمكن القول إننا تمكنا من تحقيق مستويات جيدة ومقبولة من البنى التحتية الأساسية، ولكن لم تكن البنى الفوقية كافية ومناسبة بما يكفي لتحقيق التنمية.
إخفاق
لذلك وجدنا أن الاقتصاد السوري قبل 2011 استطاع تحقيق معدل نمو وسطي تراكمي قرابة 5.2% وهو معدل جيد، ولكنه لم يكن كافياً لتحقيق التنمية المطلوبة، فالقاعدة تقول إنه يجب تحقيق معدل نمو وسطي تراكمي يفوق مثلي معدل النمو السكاني حتى يتحول النمو إلى تنمية، وبالتالي كنا نحتاج معدل نمو لا يقل عن 7% وهذا ما لم يتحقق فكان الإخفاق مستمراً وما زال، وهذا يعود لكثير من الأسباب الموضوعية الداخلية والخارجية.
وما يهمنا التركيز عليه هو العوامل الداخلية، والتي كان بالإمكان التحكم بها أو تخفيف آثارها إن لم يكن معالجتها أو تفاديها، وأهم هذه العوامل ضعف البنى الفوقية، وهذه تتكون من المؤسسات والمؤسساتية والبيئة التشريعية.
ووفقاً للدكتورعياش فإن المؤسساتية تعني الموارد البشرية من حيث الترشيح والتعيين والتأهيل والتدريب، والكفاءة والجدارة والتقييم والتحفيز، وهذا يرتبط بشكل وثيق بنظم التعليم والتأهيل بمختلف مستوياتها.
وكذلك تتضمن المؤسساتية مفهوم الإدارة “والإدارة العامة بالخصوص” وإدارة القطاع الاقتصادي على وجه الدقة أي مستويات التنظيم والتخطيط والقيادة، والتنسيق والرقابة والنظم المتخصصة للقيام بذلك، فالإدارة تعني مدى القدرة على التوظيف الأمثل للموارد المتاحة لتحقيق الأهداف المخططة حسب كل مؤسسة بفاعلية وكفاءة، وهنا كان أحد أهم عوامل الفشل.
بيئة ناظمة
والجانب الأهم أيضاً للمؤسساتية بحسب الخبير الاقتصادي هو البيئة التشريعية الناظمة لعمل المؤسسات، وهي كانت أحد العوامل المعيقة للتحديث والتطوير، فلم تكن تتمتع بالمرونة اللازمة لمواكبة المتغيرات بالسرعة والكفاءة اللازمة، ومن أمثلتها قانون العاملين الموحد 50 لعام 2004 وقانون العقود 51 لعام 2004.
بالإضافة إلى كارثة التعليمات التنفيذية والصياغات المجازية للكثير من مواد القوانين والتي كانت كفيلة بتفريغها من محتواها وحرفها عن غاياتها.
وباختصار شديد فشلنا في تحقيق التنمية المنشودة مرده إلى افتقارنا للتطبيق الصحيح لمفهوم المؤسساتية ضمن منظومة تشريعية مناسبة.
التحديات
خلال فترة الحرب خسرنا الكثير من الموارد والثروات، وأكبرها خسارة الموارد البشرية السورية، وتحولنا من الاكتفاء الذاتي بالكثير من الموارد إلى العجز في أغلبها، وهذا يوجد تحديات كبيرة أمام الإدارة الجديدة للبلاد، وأهم هذه التحديات على المستوى الاقتصادي، تأمين التمويل اللازم للتعافي والبدء بإعادة البناء والإعمار، وتأمين حوامل الطاقة بشكل مستمر ومستقر، فالطاقة عصب
الاقتصاد
وشرط رئيسي للاستثمار، إضافة إلى إعادة هيكلة المؤسسات، وبناء المؤسساتية، وتهيئة البيئة التشريعية المناسبة.
فهذه من أهم مقومات بيئة الأعمال الجاذبة للاستثمار، وبالتالي تقرير مصير القطاع العام الاقتصادي بما ينسجم مع التوجه الاقتصادي الجديد نحو الانفتاح، واقتصاد السوق الحر، واستثمار مقدرات قطاع الأعمال الخاص في خدمة التنمية، وإعادة النظر في كافة القوانين والتشريعات السابقة ولا سيما الاقتصادية منها.
وبالتالي فإن النجاح في إدارة هذه التحديات كفيل في ضمان الاستثمار الأمثل للموارد المتاحة بأفضل فاعلية وكفاءة، وبالتالي سيضمن للإدارة الجديدة القدرة على تحقيق أهدافها الرئيسة اقتصادياً، ولا سيما المساعدة على معالجة الركود التضخمي من خلال زيادة الاستثمار والإنتاج، وزيادة معدلات التشغيل، وبالتالي الاستقرار النسبي للأسعار، وتخفيض عجز الموازنة مع توازن سعر الصرف، وتخفيض معدلات البطالة إضافة إلى تحسين مستويات الدخل ومصادره، وتعزيز العدالة الاجتماعية مع ضبط الهدر وتقييد الفساد.
شجون مختلفة
الحديث عن هذه الموضوع له شجون مختلفة، لكنها تتفق في الحفاظ على قوة الدولة الاقتصادية والسيطرة على مواردها، واستثمارها بالشكل الذي يخدم مصالحها، إلا أن النظرة لكيفية هذا الاستثمار تختلف، واليوم سوريا تتجه نحو استثمارات جديدة لهذه الموارد، إذ وضعت سوريا من أغنى الدول في تنوع الموارد، إلا أن الباحث الاقتصادي الدكتور عصام تيزيني استغرب هذا التصنيف، وعلى أي أساس تم هذا التقييم واعتماده، كغيرها من البلدان، وبالتأكيد سوريا لديها موارد، ولا تتركز في مجال محدد فهي متنوعة، وهذا التنوع هو الحالة الإيجابية الجامعة لهذه الموارد، فهي تمتلك موارد طبيعية وبشرية، ولكن للأسف الشديد لم تستخدم بالشكل الصحيح، خلال العقود الماضية، والسبب الجوهري، هي طريقة الحكم والاستثمار لهذه الموارد، ” القبضة الحديدية” وبالتالي لم تكن هناك خيارات متاحة للتفكير بأساليب مختلفة، خارج عن إطار السلطة الحاكمة وأدوات تنفيذها، خلال العقود الماضية.
وبرأي للدكتور “تيزيني” في تصريح لصحيفة “الحرية” فإن سورية غنية بالموارد الطبيعية والبشرية، ولديها موارد مميزة، ومن الضروري جداً وضع رؤية لاستغلالها بالطريقة المثلى لتتناسب مع أهداف المرحلة القادمة، والعمل بشكل متواز مع إصدار تشريعات وقوانين، تساعد في ترجمة الرؤية الجديدة لسورية، وتسمح باستثمار هذا التنوع من الموارد، ضمن إطار تحسين الواقع الاقتصادي على مستوى الاقتصاد الكلي الذي يسهم بالدرجة الأولى في تحسين مستوى معيشة المواطنين .
وأضاف تيزيني: “الأسف الشديد” والذي يشعر به الجميع، أن هذه الموارد لم تكن تستثمر بصورتها الحقيقية، ومعظم عوائدها الاقتصادية خارج حسابات الخزينة العامة للدولة، بل كانت تذهب لجيوب أصحاب النفوذ والسلطة، والأمل كبير في العهد الجديد أن تعود هذه الواردات بمجملها الى خزينة الدولة واستثمارها بصورة تخدم الدولة والمجتمع.
ليس آخراً
للحديث تتمة لأن الموضوع كبير جداً فهو بحجم وطن، وما تمتلكه سوريا من موارد طبيعية وبشرية، يجعلها في مقدمة الدول بالثراء الاقتصادي المبني على الاستثمار الأمثل لهذه الموارد المتنوعة، والتي تلبي مقومات الحالة الإنتاجية من زراعة وصناعة وتجارة، وتشكيل وحدة اقتصادية متكاملة عبر سلسلة هي الأكثر ترابطاً عن مثيلاتها في الدول، فسوريا تمتلك موارد باطنية وبترولية ومعدنية ومساحات زراعية، وقوة تصنيع تستوعب كل ذلك، وقوة بشرية وكفاءات وخبرات قادرة على إدارتها، إلا أن التفكير في المصلحة الخاصة، وتغليبها على المصلحة العامة، أدى إلى حالة التردي الاقتصادي والاجتماعي والفقر لغالبية الأسر السورية، نتيجة سرقة هذه الموارد واستثمارها لغير غايتها الحقيقية.
واليوم نحن في سوريا الجديدة هل تعيد الدولة البوصلة الحقيقية باتجاه استثمار هذا التنوع من الموارد ، “وهذا المقصود بالغنى” لخدمة بناء الاقتصاد من جديد وتحقيق رفاهية المجتمع السوري بكل أبعاده، الأمل كبير، وهذه ما ننتظره خلال الأيام القادمة.