الحرية– نهلة أبو تك:
يكتسب الحديث عن الاستثمار الزراعي في سوريا اليوم بعداً مختلفاً، بعد أن دفعت التحديات المتراكمة خلال السنوات الأخيرة القطاع الزراعي من موقع المنتج إلى موقع المهدّد، ليصبح ملف الغذاء قضية يومية للعديد من السوريين.
هذه التحولات لا ترتبط بارتفاع الأسعار فحسب، بل بمجموعة من العوامل التي جعلت الإنتاج الزراعي أقل قدرة على الاستمرار وأكثر حاجة إلى خطط تدخل اقتصادي عاجل ومخطط له بدقة.
مشهد زراعي ضاغط
يواجه القطاع الزراعي السوري اليوم ثلاثة تحديات رئيسية: تغير المناخ، ارتفاع تكلفة الإنتاج، وضعف البنية التحتية.
تأثير التغير المناخي: لم تعد موجات الجفاف حدثاً موسميّاً، بل باتت جزءاً من نمط مناخي جديد. ارتفاع درجات الحرارة، تراجع الهطولات المطرية، وضغط الرياح الجافة دفعت مساحات واسعة من الأراضي إلى انخفاض الإنتاج حتى في مواسم جيدة ظاهرياً.
ضعف شبكات الري: تعاني كثير من شبكات الري التقليدية من التهالك، ما يضطر المزارعين إلى البحث عن مصادر مائية إضافية غير متاحة أو مكلفة، ما يضعف استقرار الإنتاج في المواسم الحرجة.
ارتفاع تكاليف التشغيل: البذار، الأسمدة، الأعلاف، المحروقات، والمعدات ارتفعت أسعارها بشكل كبير، ما يفرض على المزارعين خيار خفض المساحات المزروعة أو التوقف عن الاستثمار، ما يزيد الضغط على سوق الغذاء.
تراجع الثروة الحيوانية: انخفاض الإنتاج الحيواني يضعف سلسلة الحليب ومشتقاته، إضافة إلى اللحوم، ما يزيد فجوة الأمن الغذائي ويجعل الأزمة أكثر عمقاً.
تظهر هذه المؤشرات بوضوح أن الأزمة ليست في الأسواق وحدها، بل في الحقول نفسها، وأن الأسعار ليست مشكلة منفصلة، بل نتيجة طبيعية لانخفاض الإنتاج، ما يجعل الاستثمار الزراعي خياراً استراتيجياً لا يمكن تأجيله.
الاستثمار يبدأ من الأرض
يشدد الخبير الزراعي الدكتور مازن الفريج على أن السيطرة على أسعار المواد الغذائية لن تتحقق بقرارات ضبط الأسواق وحدها، قائلاً في تصريحه لـ”الحرية”: “السوق يستجيب للإنتاج، وليس للقرارات الإدارية. حين يرتفع الإنتاج، تستقر الأسعار، وحين ينخفض، لا توجد آلية قادرة على ضبطه مهما تشددت الرقابة.
ويحدد الفريج خمسة محاور أساسية لأي خطة استثمار زراعي ناجحة:
. تمويل مباشر للحقول المنتجة: دعم مخصص للأراضي القابلة للإنتاج الفوري لتجنب هدر الموارد وإعادة تشغيل الحقول المتوقفة.
. إعادة تأهيل شبكات الري وتطوير أنظمة حديثة: تحسين البنية التحتية للري يزيد الإنتاجية في العديد من المناطق.
. تطوير الأصناف الزراعية: تكييف النباتات لتتناسب مع المناخ الحالي، بعيداً عن الأصناف القديمة التي تؤدي إلى خسائر.
. تفعيل مراكز الإرشاد الزراعي وربطها بالخبراء: توفير المعرفة العلمية الحديثة للمزارعين لدعم الإنتاج المستدام.
. توسيع الشراكات الدولية: الاستفادة من الخبرات، والتكنولوجيا، والتدريب، والآليات الحديثة لتعزيز القطاع.
تعزيز الإنتاج قبل ضبط الأسعار
تسعى الحكومة لمراقبة الأسعار ودعم الصناعات الغذائية الصغيرة والمتوسطة، لكن من دون زيادة الإنتاج تبقى هذه الإجراءات محدودة التأثير.
فالأسعار ليست رقماً متغيراً بقرار، بل نتيجة طبيعية لميزان العرض والطلب. وعندما يكون الإنتاج ضعيفاً، تصبح الأسواق هشّة أمام أي خلل في النقل، موجة جفاف، أو ارتفاع طفيف في تكاليف الإنتاج.
يرى الفريج أن ضبط الأسعار يجب أن يكون مرحلة لاحقة بعد: زيادة الإنتاج ثم ضبط الأسعار ثم تعزيز الاستقرار.
أثر الاستثمار الزراعي: دورة اقتصادية متكاملة
يمتد أثر الاستثمار الزراعي ليشمل:
زيادة فرص العمل في الريف.
تشغيل قطاع النقل والتخزين.
دعم الصناعات الغذائية المحلية.
تقليل الاعتماد على الاستيراد.
تحسين دخل المزارعين.
تشكيل قاعدة إنتاجية مستقرة تمنع تقلب الأسعار.
هذه الدورة الاقتصادية المتكاملة تؤكد أن كل حلقة تدعم الأخرى، لتستقر السوق وتحسن القدرة الشرائية للمواطن.
الأمن الغذائي مشروع إنتاج
يخلص الدكتور فريج إلى أن الأمن الغذائي مشروع إنتاج لا مشروع رقابة، فالسياق الحالي يوضح قدرة الزراعة السورية على النهوض بشرط واحد: الاستثمار المباشر المدروس. فزيادة الإنتاج، تطوير الأدوات، وتعزيز قدرة المزارع على الاستمرار، يمكن أن يحوّل القطاع الزراعي من إدارة أزمة إلى بناء مستدام يحمي السوق والمواطن معاً.