الحرية – لوريس عمران:
تفتح سوريا صفحة جديدة عنوانها «الاقتصاد أولاً» في لحظة فارقة من تاريخها الحديث بعد سنوات من الأزمات التي عصفت بالبنية الاقتصادية والاجتماعية، لم تعد دمشق تبحث عن المساعدات، بل عن الشراكات، و لم تعد تنتظر الدعم، بل تصنعه.
هذه النقلة النوعية، التي أكد عليها فخامة الرئيس أحمد الشرع في خطابه الأخير، تمثل نقطة تحول تاريخية من الإغاثة إلى الاستثمار، ومن العزلة إلى الانفتاح الإقليمي والدولي، وهي رؤية ترتكز على قناعة بأن الاقتصاد لا ينفصل عن الأمن، وأن استقرار سوريا هو استقرار للمنطقة بأكملها.
اضطراب سوريا في السنوات الماضية، كما أشار الرئيس الشرع، لم يكن شأناً داخلياً فحسب، بل انعكس على الإقليم بأكمله، من موجات النزوح إلى تجارة المخدرات، وصولاً إلى تفكك سلاسل الإمداد، لذلك فإن عودة سوريا إلى موقعها الطبيعي في قلب الشرق الأوسط لم تعد خياراً سياسياً، بل ضرورة إستراتيجية لدول الجوار.
تحول في الفلسفة الاقتصادية
ومن هذا المنطلق يبدأ الخبراء الاقتصاديون بتفكيك ملامح المرحلة الجديدة، التي لا تقتصر على الخطاب السياسي، بل تتجلى في مؤشرات واقعية وتحولات ملموسة على الأرض، الخبير الاقتصادي الدكتور حسام خليو يرى أن أبرز ملامح هذه المرحلة هو الانفتاح السياسي والاقتصادي الواسع الذي تشهده سوريا بعد سنوات من العزلة، معتبراً أن زيارة الرئيس السوري إلى المملكة العربية السعودية لم تكن مجرد خطوة بروتوكولية، بل تعكس إدراك دمشق لأهمية الدور الذي تلعبه الرياض في قيادة التحولات الاقتصادية الإقليمية، خصوصاً في ظل “رؤية 2030” التي تسعى إلى بناء فضاء اقتصادي عربي متكامل يتجاوز الحدود الوطنية.
ويضيف الدكتور خليو أن الأرقام التي أعلنها الرئيس الشرع تشير إلى تحولات ملموسة في البيئة القانونية والاستثمارية، حيث تم تعديل منظومة القوانين الاقتصادية خلال فترة قصيرة، ما جعلها – بحسب وصف الرئيس – «الأفضل في العالم»، وهو ما انعكس بدخول استثمارات بقيمة 28 مليار دولار خلال ستة أشهر فقط.
لكن الأهم من الأرقام، كما يوضح خليو، هو التحول في الفلسفة الاقتصادية نفسها، فاليوم، لم تعد سوريا تراهن على المساعدات الإنسانية أو الدعم الخارجي التقليدي، بل على رأس المال المنتج، وعلى بناء شراكات استثمارية مع القطاعين العام والخاص، سواء المحلي أو الأجنبي.
شراكات إقليمية واعدة
ويتابع أن شراكات إقليمية جديدة بدأت بالتشكل مع دول مثل السعودية، قطر، الإمارات، تركيا، الأردن، والبحرين، في حين أبدت شركات أمريكية اهتماماً بالدخول إلى السوق السورية، وهذه التحركات تعكس تبدلاً في المزاج الاقتصادي الدولي تجاه سوريا، التي تسعى اليوم إلى استثمار موقعها الجغرافي كممر طبيعي بين الشرق والغرب، وكبوابة لطريق الحرير الجديد.
ويشير خليو إلى أن سوريا تراهن على تنويع اقتصادها وإعادة بناء قطاعاته الإنتاجية، بدءاً من الزراعة والصناعة، مروراً بالخدمات والطاقة، وصولاً إلى السياحة، فالهدف هو تأسيس اقتصاد مستدام لا يعتمد على قطاع واحد، بل يقوم على مبدأ التكامل الإقليمي وتبادل المنافع بين الدول.
استثمار لا إغاثة
ورغم هذا الطموح الكبير، لا يخفي خليو أن الطريق لا يخلو من التحديات، فهناك حاجة إلى استقرار مالي أعمق، وبنية تحتية مؤهلة، وثقة استثمارية طويلة الأمد، لكنه يقول إنّ وضوح الرؤية السياسية وتنامي الدعم الإقليمي يشيران إلى توجه جاد نحو إطلاق مرحلة «التعافي الإنتاجي»، التي من شأنها أن تعيد لسوريا مكانتها كمركز اقتصادي محوري في الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة.
وفي ختام حديثه يؤكد الدكتور خليو أن ما تطرحه سوريا اليوم ليس مجرد خطة اقتصادية، بل مشروع وطني متكامل لإعادة صياغة الهوية الاقتصادية للبلاد بعد عقد من الأزمات، وكما قال الرئيس الشرع: «نريد أن نبني سوريا بالاستثمار لا بالمساعدات، وبالشراكات لا بالعزلة، وبالإرادة لا بالانتظار»
ليست سوريا اليوم بصدد استعادة ما فُقد فحسب، بل تعيد تعريف موقعها في الخريطة الاقتصادية الإقليمية، فالمشروع الذي تطرحه القيادة السورية لا يكتفي بإصلاح ما تهدّم، بل يسعى إلى بناء نموذج اقتصادي جديد، يقوم على الشراكة لا التبعية، وعلى الإنتاج لا الاستهلاك، وعلى الإرادة لا الانتظار.