الحرية – وديع فايز الشماس:
تدخل الليرة السورية مرحلة إعادة هيكلة نقدية غير مسبوقة، عبر حذف صفرين من قيمتها الاسمية، في خطوة تتجاوز البعد الشكلي لتلامس جوهر الثقة النقدية التي تآكلت خلال سنوات طويلة من الحرب والعقوبات والانكماش.
ولا يمكن قراءة هذا الإجراء بمعزل عن السياق الأوسع المتمثل في إلغاء قانون «قيصر» وفتح باب الاستيراد، وهي متغيرات تضع الاقتصاد السوري عند مفترق حاسم بين إعادة تنظيم السيولة أو إعادة إنتاج الاختلالات القديمة بصيغ جديدة.
خبير اقتصادي: حذف الأصفار يحقق استقرارًا نقديًا اذا ترافق بتدفقات نقدية خارجية حقيقية
إدارة السيولة المكتنزة وتحييد الصدمات..
إن إتاحة مهلة تمتد لخمس سنوات لاستبدال العملة القديمة لا تمثل قرارًا إجرائيًا تقليديًا، بل أداة نقدية تهدف إلى امتصاص السيولة المكتنزة تدريجيًا وإدخالها إلى الدورة الرسمية دون إحداث صدمة نقدية، فالاقتصاد السوري يحتوي على كتلة نقدية واسعة تعمل ضمن اقتصاد ظل فرضته سنوات عدم اليقين، وكان إدخال هذه السيولة دفعة واحدة سيؤدي إلى ضغط تضخمي حاد، وربما موجات مضاربة على العملات والأصول.
ويهدف الاستبدال التدريجي إلى: إعادة الأموال المكتنزة بوتيرة محسوبة، وتخفيف الضغط على الأسعار، مع الحد من المضاربات، وبناء قاعدة بيانات نقدية أدق تمكّن المصرف المركزي من إدارة السياسة النقدية بكفاءة أعلى.
من الاكتناز إلى الاستثمار..
تشير سيدة الأعمال مروى الأيتوني إلى أن التحدي الحقيقي لا يكمن في حجم السيولة، بل في وجهتها الاقتصادية، فالعقوبات السابقة أوجدت بيئة عالية المخاطر عطّلت التحويلات ورفعت تكلفة التأمين، ما دفع برأس المال المحلي إلى الاكتناز بدل الاستثمار.
وتحذّر الأيتوني من أن تحرير السيولة دون بيئة جاذبة قد يؤدي إلى توجيه الأموال نحو الاستهلاك الاستيرادي، واستنزاف القطع الأجنبي، وإضعاف فرص النمو المستدام.
كما ترى أن المرحلة المقبلة تتطلب حزمة متكاملة تشمل: استقرارًا تشريعيًا وضمانات قانونية، إضافة إلى حوافز ضريبية مدروسة وأدوات تمويل حديثة لتحويل رأس المال من سلوك دفاعي إلى شريك في التنمية.
بين كسر الاحتكار وضغط ميزان المدفوعات..
الخبير الاقتصادي مروان زغيب يرى أن تحرير الاستيراد يشكّل أداة فعالة لكسر الاحتكار وخفض الأسعار، لكنه في الوقت ذاته يحمل آثارًا جانبية لا يمكن تجاهلها، ففتح الاستيراد دون ضوابط إنتاجية موازية قد يؤدي إلى زيادة الطلب على القطع الأجنبي، و ضغط على ميزان المدفوعات، وتراجع مؤقت في القوة الشرائية للعملة.
ويؤكد زغيب أن حذف الأصفار لا يمكن أن يحقق استقرارًا نقديًا ما لم يترافق مع تدفقات خارجية حقيقية، سواء عبر الاستثمار المباشر أو تحويلات المغتربين، تدعم سعر الصرف التوازني وتمنح الليرة سندًا حقيقيًا.
استعادة الوظائف الأساسية للنقد..
يشكل رفع العقوبات نقطة التحول الأكثر تأثيرًا في المشهد النقدي السوري، فالعقوبات لم تُنهِ الليرة، لكنها عطّلت وظائفها الأساسية، كوسيط للتبادل وكمخزن للقيمة، ووحدة قياس واليوم، يعتمد نجاح الليرة «المعاد تصميمها» على قدرة المصرف المركزي على إدارة توقعات الجمهور وضبط السيولة وتوفير أدوات مالية حديثة، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، فالثقة هي العملة الحقيقية، وحذف الأصفار ليس سوى خطوة لإعادة صياغة العقد النقدي.
خلاصة اقتصادية..
الاستثمار قبل التعقيم النقدي..
الاستثمار قبل التعقيم النقدي..
يمثل حذف الأصفار عملية «التغيير» للنظام النقدي، لكنه لا يشكل بحد ذاته محركًا للنمو، فالاقتصادات لا تنهض بقرارات نقدية فقط، بل بقدرتها على توليد القيمة وفرص العمل، والاختبار الحقيقي سيبدأ عندما يقرر أصحاب رؤوس الأموال، هل يضعون أموالهم في المصارف السورية؟ أم يواصلون الاتجاه نحو الأصول الصلبة كالذهب والعقار؟
إن مستقبل الليرة السورية لن يُحسم في مطابع النقد، بل في المصانع والحقول وبيئة الأعمال، حيث تُبنى الثقة على الإنتاج لا على الأرقام.