الاقتصاد المنهار وسؤال العدالة.. هل نشهد محاسبة للفاسدين لتحقيق التعافي؟

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية – رشا عيسى:

لا يُعدّ الانهيار الاقتصادي الذي ضرب سوريا حدثاً مفاجئاً ولا قدراً محتوماً، بل نتيجة مسار طويل من السياسات والقرارات التي أُديرت في الظل، بعيداً عن أي مساءلة أو رقابة، واليوم بينما يُطرح التعافي كأولوية، يبرز سؤال جوهري لا يمكن تجاوزه هل يمكن بناء اقتصاد مستقر دون محاسبة من تسببوا بانهياره؟ أم إن تجاهل الحقيقة سيعيد إنتاج الأزمة بأشكال جديدة؟

التعافي الاقتصادي يبدأ من المساءلة..

الباحث في الشؤون السياسية والاقتصادية المهندس باسل كويفي أكد في حديث لـ”الحرية” أنه طالما جادل كثير من السوريين بأن وجود آليات مساءلة ومحاسبة شفافة بشأن الانهيار المالي لا يقل أهمية عن أي برنامج إصلاحي أو خطة تعافٍ اقتصادي، بل يشكّل أحد أعمدتها الأساسية، فالتجارب المقارنة تثبت أن الاقتصادات الخارجة من الأزمات تبقى هشّة إذا جرى تجاوز المسؤولين عن الانهيار أو طيّ الصفحة دون محاسبة.
وفي الحالة السورية، يبرز ملف الانهيار الاقتصادي والمالي خلال فترة حكم النظام الساقط كأحد أكثر الملفات حساسية وتعقيداً، لما يحمله من أبعاد تتصل بالعدالة الانتقالية، وإعادة بناء الدولة، واستعادة الثقة بالمؤسسات.

منظومة المال والسلطة

إن تتبّع المسار الذي قاد إلى الانهيار يكشف عن دور محوري لعبته شبكات مالية ومصرفية مرتبطة مباشرة بمراكز القرار السياسي والأمني، ويضع ذلك مسؤولية قانونية وأخلاقية على عاتق حاكمي مصرف سوريا المركزي السابقين، وعدد من مديري البنوك والمؤسسات المالية، إضافة إلى الكيانات والشركات المرتبطة بهم وفقاً لكويفي.
كما يبرز دور المكتب المالي والاقتصادي الذي أُدير في تلك المرحلة وأشرف على شبكة واسعة من الشركات العاملة في قطاعات التمويل والاتصالات والعقارات والنفط والسياحة، استُخدمت لإدارة أصول العائلة الحاكمة وتهريب الأموال والاستيلاء على موارد الدولة خارج أي رقابة مؤسسية.

“جرائم اقتصادية”

يوضح المهندس كويفي أن ما حدث لم يكن أخطاءً إدارية أو سياسات فاشلة فحسب، بل ممارسات ممنهجة شملت إساءة استخدام السلطة والفساد والاختلاس، والإهمال الجسيم المتعمّد وقد انعكست هذه السياسات مباشرة على معيشة السوريين، من انهيار العملة وارتفاع الأسعار إلى تآكل الدخول واتساع رقعة الفقر.
ومن هنا، يصبح كشف الحقيقة حقاً أصيلاً للمجتمع السوري، الذي عانى من نتائج هذه السياسات وله الحق في معرفة كيف أُديرت ثرواته، ومن اتخذ القرارات التي قادته إلى هذا الواقع المعيشي القاسي.

الانهيار كأداة سياسية

في كثير من السياقات، لا يكون إضعاف الاقتصاد وانهيار مستوى المعيشة نتيجة عرضية، بل جزء من مسارات سياسية– اجتماعية ممنهجة تخدم أهدافاً غير مشروعة، وغالباً ما تتقاطع هذه المسارات مع الجريمة المنظمة والفساد والاقتصاد غير المشروع، حيث يُستغل الفقر كوسيلة للسيطرة والابتزاز.

خبير: ضرورة مؤسسية لاستعادة الثقة وبناء عقد اجتماعي جديد

بين العقاب والحقيقة مقاربة متكاملة…

كما يبين كويفي أن التعافي المستدام يتطلب مقاربة شاملة تجمع بين تحقيق العدالة وكشف الحقيقة كاملة لضمان عدم التكرار، وإعادة بناء المؤسسات على أسس الحوكمة الرشيدة والشفافية، فالخيار ليس بين العقاب أو الحقيقة أو الاعتراف، بل في عملية متكاملة تشمل لجان تحقيق مستقلة، وإصلاحاً مؤسسياً حقيقياً، وضمان عدم إفلات أي مسؤول من المحاسبة إذا ثبت تورطه.
بالتوازي مع المساءلة، لا بد من التركيز على معالجة الأسباب الجذرية للأزمة عبر سياسات اجتماعية واقتصادية عادلة، تشمل تعزيز الحماية الاجتماعية، وتحقيق توازن مقبول بين الدخل والإنفاق، وإصلاح منظومة الأجور وفق معايير حديثة تقوم على الكفاءة والكرامة الإنسانية، فلا استقرار اقتصادياً دون عدالة اجتماعية، ولا سلام مستدام دون شعور المواطنين بالإنصاف.

دروس من التجارب الدولية..

يستشهد المهندس كويفي بكتاب «المحاسبة بعد الأزمات الاقتصادية: العقاب، الحقيقة، أم الاعتراف؟» للباحث يوسيف كوفراس والذي يشير إلى أن الأزمات الاقتصادية لا تؤدي تلقائياً إلى الإصلاح، بل لا تنتج إصلاحاً حقيقياً إلا عندما تنجح آليات المساءلة في محاسبة المسؤولين عنها، كما يبيّن أن المساءلة الجنائية تبقى نادرة بعد الأزمات الكبرى، رغم كونها عاملاً حاسماً في منع تكرار الانهيار.
يرى الباحث كويفي أن محاسبة المتورطين في الانهيار الاقتصادي والمالي ليس فعلاً انتقامياً، بل ضرورة مؤسسية لاستعادة الثقة وبناء عقد اجتماعي جديد، فبدون محاسبة شفافة، يبقى التعافي هشّاً، وتبقى جذور الأزمة قابلة للتجدد.
المحاسبة هنا ليست تصفية حساب مع الماضي، بل استثمار في المستقبل، وفي ثقة المواطن، وفي مصداقية المؤسسات، وفي اقتصاد يحترم كرامة الإنسان ويصون أمنه المعيشي.

Leave a Comment
آخر الأخبار